المحاميان خليل وفارس زعتر

طريقة المعالجة من قِبل السلطة لطخة عارٍ أبدية لا يمكن أن تمحى

التعويض عن خسائر الودائع يتحمَّلها الجاني لا الضَّحيّة

14 شباط 2022

02 : 00

بعيدَ ثورة 17 تشرين الأول 2019، وانكشاف الوضع المصرفي المزري لعامة الناس من الطبقات الوسطى والكادحة وأصحاب الدخل المحدود، عندما بدأت المصارف تمارس انتقائياً فرض قيودٍ غير معهودة على سحوبات عملائها من مدخراتهم وودائعهم، لاسيما منها الودائع بالعملات الأجنبية وأخصّها بالدولار الأميركي، إرتفعت أصوات من هنا وهناك داخل البرلمان وخارجه، تنصح، بل تطالب، باعتماد "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" على الودائع في المصارف كإجراءٍ ضروري لمنع تفاقم الأزمة المالية.

واليوم، بعد مرور سنتين وثلاثة أشهر، ازدادت الأصوات وكثُرَتْ التسريبات والإيحاءات المعتمِدة على "خطة الإنقاذ المالي" الجديدة، بوجوب اعتماد "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" إلى حدود تصل إلى خمسين بالمئة، وربما أكثر، من الإيداعات، وحضّ المودعين على القبول بهذا العرض "المغري"! الذي يجنِّبهم، في حال رفضه، خسارة مدّخراتهم بكاملها.



المحاميان خليل وفارس زعتر




الحل المقترح مخالف لأبسط القواعد الأخلاقية والقانونية

وبصرف النظر عن حسن أو سوء نيّة هذا أو ذاك من مقترحي هذا الحلّ، أو بالأحرى هذا الإجراء، لا بُدَّ لنا من أن نعلن في مطلع هذا المقال- العجالة أن هذا الحلّ وبالطريقة التي يُطرح بها، مخالف لأبسط القواعد الأخلاقية والقانونية. وإيضاحاً لذلك، نبدأ بإعطاء صورة عن التعدي المخيف الذي تعرّض له المودعون على حقوقهم التي يُفْتَرض أن يحميها الدستور والقوانين والأنظمة المشروعة النافذة، خلال فترة السنتين والثلاثة أشهر من 17 تشرين الأول 2019 وحتى اليوم.

تعديل القانون لا يكفي بل تعديل الدستور!

ما ذكره حضرة حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة وحضرة وزير المالية الدكتور غازي وزني من أن "الهيركات" (haircut) يحتاج إلى قانون، وكذلك ما أوضحه حاكم مصرف لبنان من أن "الكابيتال كونترول" (capital control) "يغيّر طبيعة الاقتصاد" ويحتاج بدوره إلى قانون، صحيح- بالحدّ القانوني الأدنى- إن كان هناك ما يمكن تسميته "بالحد القانوني الأدنى". نقول هذا لأنه إذا كان "الكابيتال كونترول" "يغيّر طبيعة الاقتصاد"، فإن اعتماده لا يتطلّب فقط إقرار قانون بل تعديل الدستور نفسه الذي نصّ صراحة في الفقرة (هـ) من مقدمته على أن "النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة"، كما أن المادة 15 من الدستور تنص على أن "الملكية في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلّا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعدَ تعويضه منه تعويضاً عادلاً".

غطّى الحاكم ممارسات المصارف غير القانونية

لكنَّ حاكم مصرف لبنان رغم معرفته بأن "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" لا يمكن اعتمادهما إلا بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب لجأ إلى تغطية ممارسة المصارف لهذين التدبيرين عن طريق إصدار "تعميم أساسي للمصارف رقم 151" بتاريخ 21/4/2020 لتطبيق القرار الأساسي الصادر عنه برقم 13221 بالتاريخ ذاته والمتعلق "بإجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية".

ونظراً للهوة الفظيعة المتّسعة بمرور الوقت بين سعر صرف الدولار في السوق الحرة والسعر المعتمد بموجب التعميم 151 عاد حاكم مصرف لبنان فأصدر التعميم 158 بتاريخ 8 حزيران 2021. لكن ما ينطبق على التعميم 151 ينطبق على التعميم 158 أيضاً لكونهما يتعلقان في حقيقتهما بتطبيق "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" بطريقة غير مشروعة، إذ إنهما لا يستندان إلى أي تشريع خاص يمنح مصرف لبنان أو حاكمه سلطة أو صلاحية إصدارهما. وهذا ما سبق لحاكم المصرف المركزي ووزير المالية الدكتور غازي وزني إعلانه وفق ما ذكرنا أعلاه.

العميل مكره على القبول

بعد صدور التعميم رقم 151 ومن ثم التعميم 158 عن حاكم مصرف لبنان صارَت المصارف تمارس عمليّتي "الكابيتال كونترول" و"الهيركات" على السحوبات وعمليات الصندوق نقداً من الحسابات أو المستحقات العائدة لعملائها بالدولار الأميركي أو بغيرها من العملات الأجنبية بالاستناد إلى هذين التعميمين؛ وصارت تطلب من عملائها الموافقة على ذلك خطياً في المصرف أو إلكترونياً لدى إجراء السحوبات من الصرَّاف الآلي. وحتماً في حال رفض العميل الموافقة على ذلك، فإن المصرف يمتنع عن إعطائه المبلغ الشهري المسموح له سحبه وفق الحدود المرسومة من المصرف.

وما لا شك فيه أنّ العميل يجد نفسه "مكرهاً" على "القبول" لحاجته الماسة إلى أمواله ليستطيع إعالة نفسه وعائلته بحدودٍ أصبحت أدنى مستوى ممّا كان معتاداً على العيش فيه قبل الإجراءات التعسُّفيّة المفروضة على أمواله، وعلى حرِّيته وحقوقه بالتصرف بأمواله المودعة بالعملة الأجنبية، التي هي غالباً بالدولار الأميركي، لدى المصارف.

في ضوء ما سبق عرضه يتبين بوضوح ما يلي:

التعميمان 151 و158 من أعمال التعدي

أولاً: إنّ التعميمين 151 و158 يتعلّقان بالإجازة للمصارف ممارسة عمليتي الكابيتال كونترول والهيركات وفق أحكامهما. ولقد أصدرهما حاكم مصرف لبنان مع معرفته الأكيدة بعدم وجود أي نصّ دستوري أو قانوني يمنحه السلطة أو الصلاحية التي تجيز له إصدارهما. وبالتالي يُشكّل إصدارهما وتطبيقهما بواسطة المصارف عملاً من أعمال التعدي على حقوق ملكية المودعين لأموالهم المودعة لدى المصارف.

لا قيمة قانونية لموافقة المودعين

ثانياً: لا قيمة قانونية إطلاقاً لموافقة المودعين على تطبيق التعميم 151 أو التعميم 158 عليهم، لأن موافقتهم جاءت نتيجة إكراه مفروض فرضاً عليهم. إذ إن امتناعهم عن الموافقة يعني امتناع المصرف عن مدّهم بالمبلغ اللازم من أموالهم المودعة لديه لمعيشتهم وحاجاتهم.

من حق المودع اللجوء إلى القضاء

ثالثاً: لقد تكبّد المودعون جرّاء تطبيق التعميمين 151 و158 عليهم خسائر فادحة ظلماً وعدواناً. ومن حقهم اللجوء إلى القضاء العدلي للمطالبة بالتعويض عنها ممن تسبب لهم بها.

المساس بالحقوق تحت سمع وبصر نواب الشعب

رابعاً: وإذا كان شرّ البلية ما يضحك، فإن أكثر ما يُضحك التصريحات التي صدرت عن نواب في المجلس النيابي تُطمئن المودعين إلى أنهم لن يسمحوا بالمساس بأموالهم المودعة في المصارف، في الوقت الذي يجري فيه المساس بها كلّ يوم أمام سمعهم وبصرهم عن طريق تطبيق التعميمين 151 و158 المذكورين.

تحميل المسؤولية للجناة قبل الحديث عن الاقتطاع

خامساً: إنّ أبسط القواعد الأخلاقية والقانونية تقضي بتحميل مسبّب الضرر المسؤولية كاملة عن الضرر الذي سببّه لضحيته. أما تعويم الجاني على حساب الضحيّة فجريمة تُضاف إلى جريمة الجاني الأساسية وتخالف ما تعارفت عليه الشرائع منذ وُجدت حتى اليوم. فقبل الحديث عن اقتطاع خمسين بالمئة من الإيداعات، أو عن اقتطاع فلسٍ واحدٍ منها، يجب إعمال القوانين وتحميل المسؤولية للجناة.

المسؤولية مدنية وجنائية

سادساً: قبل الحديث عن تحميل خسائر للمودعين، يجب البدء بالحديث عن تحميلها بالتكافل والتضامن للمسؤولين عن الكارثة المالية التي لها طابع تقصيري واضح. وهم المصارف ومديروها وأعضاء مجالس إدارتها ومصرف لبنان والقيّمون على إدارته، والدولة اللبنانية ووزراء المالية المتعاقبون، وسواهم ممن يثبتُ إسهامه في الكارثة، بفعله أو بامتناعه. والمسؤولية التي يتحملّونها هي مسؤولية مدنية، وربما جزائية أيضاً، وهي تقضي بأن يتحمَّلوا مع الدولة اللبنانية عبءَ التعويض على أصحاب الودائع وليس العكس.

ليست جريمة عادية بل جريمة بحق الوطن والأجيال

سابعاً: ليست الودائع في المصارف مجرّد أموال وأرقام وقيم مادية. بل إنها تمثِّل عرقاً ودماءً وكدّاً وسهراً وأحلاماً بناها جامعوها للعيش الكريم، لهم ولأولادهم وأولاد أولادهم من بعدهم. وهي تمثِّل قبل كلِّ شيء حريّة المرء المقدّسة في التصرّف، والعيش الكريم، والسفر والتعليم وتحقيق المشاريع. إن ما جرى بحقّ المودعين أكبر من جريمة عادية بحق أفراد، إنها جريمة كبرى بحق وطنٍ بأكمله وبحقّ أجيالٍ جديدة ناشئة وأجيال لم تولد بعد. إن معالجة هذه الأزمة التاريخية الكبرى من قبل السلطة السياسية الحاكمة لطخة عارٍ أبدية عليها لا يمكن أن تمحى. فالمعالجة كانت واجبة منذ اليوم الأول للأزمة الكارثة، وكل ما شاهدناه وسمعناه وقرأناه هو تصاريح سقيمة وإضاعة وقت ثمين في مناكفات صغيرة تافهة.

تصريحات تطمينية: لا هيركات ولا كابيتال كونترول!

في أوائل تشرين الثاني 2019 أعلن حاكم مصرف لبنان في مؤتمر صحافي متلفز أنه لا خطط لديه لفرض "الكابيتال كونترول" Capital Control أو "الهيركات" Haircut، وأنه لن يكون هناك هيركات لأنَّ المصرف المركزي لا يدعم هذه الفكرة، وهو لا يملك سلطة إجراء"الهيركات". وقال إن "الكابيتال كونترول" غير مطروح لأن البلد يعتمد على حرية حركة النقد. (جريدة ألـ “Daily Star” الصادرة في 11 تشرين الثاني 2019 والموقع الإلكتروني The National بتاريخ 11 تشرين الثاني 2019). وفي أوائل كانون الثاني عام 2020 أعلن الحاكم في مقابلة تلفزيونية أن "الكابيتال كونترول" Capital Control يغيّر طبيعة الاقتصاد. وهوَ قرار يعود اتخاذه إلى الحكومة ويتطلب إقرار قانون في مجلس النواب.


وعاد الحاكم فكرّر قوله "إن الهيركات لن يُعمل به. وإنَّ المصرف المركزي لا يملكُ صلاحية إجراء عمليات الهيركات التي تتطلب سنّ قانون جديد. (يراجع الموقع الإلكتروني www.businessnews.com.lb الخبر المنشور فيه بتاريخ 10 كانون الثاني 2020 ) وعاد في أواخر شهر كانون الثاني 2020). فأعلن، في ردّه على رسالة من رجل الأعمال خلف الحبتور أن القانون لا يسمح بالهيركات Haircut على الودائع. وأكّد مرّة أخرى أن الهيركات لا يحصل إلاّ إذا أصبح مشروعاً بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب (يراجع الموقع الإلكتروني www.xinhuanet.com الخبر المنشور فيه بتاريخ 26 كانون الثاني 2020 نقلاً عن ألـ LBCI). وبدوره أكّد وزير المالية الدكتور غازي وزني "في حديث لمحطة (LBCI) أن كل ما يُحكى عن الـ Haircut غير دقيق، وهوَ يحتاج إلى قانون، وبالتالي لم تتطرّق الحكومة له، لا من قريب ولا من بعيد" (يراجع موقع العربية الإلكتروني https/wwwfacebook.com/AlArabiya تاريخ 11 نيسان 2020).


MISS 3