منير يونس

من صندوق النقد والخزانة الأميركية و"فاتف" والقضاء الأوروبي

خناق دولي وثيق يُطوّق أعناق المصارف ومصرف لبنان

14 آذار 2022

02 : 00

بري وسلامة: المجلس النيابي مطالَب سريعاً بورشة تشريعية إصلاحية جذرية للقطاع المصرفي

تتعاظم الضغوط الدولية على مصرف لبنان والقطاع المصرفي يوماً بعد يوم، لأسباب مختلفة أبرزها ملء الفراغ الرقابي والتنظيمي الذي تركته حاكمية البنك المركزي عن قصد حيناً وعجز أحياناً أمام هول تداعيات الأزمة المالية والمصرفية والاقتصادية التي حلت بلبنان. وتتفاقم تداعيات ذلك الانحدار منذ تشرين الأول 2019، من دون حلول جذرية تعيد البلاد الى سكة التعافي ولو بقيراط.

من بين تلك الضغوط ما هو آت لا محالة من صندوق النقد الدولي، إضافة الى وزارة الخزانة الأميركية المهتمة تاريخياً بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب في لبنان، و الآن تضع على أجندتها مكافحة فساد السياسيين في النظام المصرفي. إلى ذلك، تسعى مجموعة العمل المالي الدولي (فاتف) حثيثاً لمراجعة تصنيفها للبنان على صعد تمويل الارهاب وتبييض الأموال. ولا ننسى الضغوط على المصارف اللبنانية في الخارج، كما قضية ملاحقة رياض سلامة في عدد من الدول الأوروبية.

صندوق النقد: الى متى تسييب القطاع المصرفي المتفاقمة أزماته الى حد الإفلاس؟

تستأنف هذا الأسبوع، مبدئياً، المناقشات مع صندوق النقد الدولي في جولة جديدة تمتد 15 يوماً، بعد فشل جولات سابقة شهدت ضعف فريق التفاوض اللبناني من جهة، وعدم مقاربته الجريئة للاصلاحات المطلوبة الا بجزء يسير منها من دون الالتفات إلى الأكثر صعوبة من جهة أخرى، والاكتفاء بالتركيز على كيفية مقاربة توزيع الخسائر والتخبط في "اختراعات" رد الودائع دون غيرها من العناوين الاصلاحية الملحة.

اللافت هذه المرة ان صندوق النقد سيتولى مباشرة نقاش ملفات من اختصاص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعدما ماطل الأخير أكثر من سنتين ممانعاً الخوض عميقاً في صلب معالجة تبعات ما اقترفته الحاكمية برعاية أطراف في المنظومة السياسية من أخطاء وخطايا مالية ومصرفية ونقدية. ممانعة اتسمت بأسلوب تمييعي ليعم الدمار وتضيع المسؤوليات ربما!

نقاشات هذه الجولة ستشمل الاطار المطلوب لاعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، مع ما يعني ذلك من قوانين وتشريعات وقرارات جذرية تضع حداً للفوضى العارمة في هذا القطاع المتعثر، إن لم نقل المفلس، في جانب كبير منه. وعلى جدول المناقشات أيضاً مشروع وضع قانون لضبط السحوبات والتحويلات (كابيتال كونترول)، الذي تقاعس البرلمان اللبناني عن أولويته لغاية في نفس يعقوب، وكان يفترض اقراره منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة، لكن المنظومة المتسلطة آثرت التمييع حتى يستطيع النافذون والمتسلطون تهريب اموالهم الى الخارج. وغني عن القول أن لا تقدم حقيقياً سيتحقق مع صندوق النقد من دون الاسراع في اقرار قانون "كابيتال كونترول" سيشمل أيضاَ حسابات ما يسمى بـ "الفرش دولار" بشكل أو بآخر.

وكما كان اشار الصندوق في بيانه بنهاية الجولة السابقة من المناقشات، سيوضع قانون السرية المصرفية على نار التعديل الجذري، بعدما تبين خلال الأزمة كم هو متستر على الفاسدين المثرين بشكل غير مشروع والمتهربين من الضرائب، ومتستر على من هرّب أمواله الى الخارج. واتضح ان السرية المصرفية تحول دون التدقيق الجنائي الحقيقي في حسابات مصرف لبنان ودون استكمال التحقيقات في حسابات محلية متصلة بالقضايا المرفوعة ضد رياض سلامة في الخارج.

وعلى جدول المناقشات توحيد أسعار الصرف، فضلاً عن طلب صندوق النقد اجراء تدقيق في حسابات مصرف لبنان، آخذا في الاعتبار ما حصل مع شركتي تدقيق عالميتين كانتا تاريخيا تدقق تلك الميزانيات، وقررتا في 2018 الانسحاب بعد تعذر اتمام اعمالهما بشفافية مع ابداء تحفظات بعد عدم التوصل الى ما يؤدي الى اظهار الميزانيات على حقيقتها. أما بشأن شركة "ألفاريز أند مارسال" المكلفة حالياً أجراء ذلك التدقيق، فهى على قاب قوسين أو أدنى من الانسحاب مرة أخرى لعدم تمكنها من القيام بعملها كما يجب مع امكان القاء اللوم على مصرف لبنان.


الخزانة الأميركية تضيف الى اهتماماتها تتبع انتهاكات السياسيين وفسادهم في البنوك


الى جانب صندوق النقد، تتولى جهات أجنبية أخرى محاولات ضبط الوضع المصرفي اللبناني المتفلت من أي تنظيم سليم ورقابة فعالة بنتيجة تداعيات الأزمة وتقاعس مصرف لبنان عن القيام بدوره كما يجب وفقا لقانون النقد والتسليف. وكان لافتاً البيان الأخير للخزانة الأميركية في تعبيره عن المخاوف من انتهاكات داخل القطاع المصرفي ارتكبها ( ويرتكبها) عدد من اطراف النخبة (الطغمة؟) السياسية الحاكمة، مع التشديد على ضرورة بذل جهود جادة من قبل مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها الحاكم نفسه أيضاً. فسارع سلامة الى التذكير بالتعميم الخاص بالطلب من المصارف العمل مع عملائها النافذين (PEPs ) على رد نسبة من الأموال التي حولوها الى الخارج ليس من 2019 بل حتى من 2017. عمر ذلك التعميم حامل الرقم 154 أكثر من سنة ونصف السنة، ولم يتابع سلامة فرض تطبيقه على البنوك طيلة تلك الفترة المديدة جداً على نحو مقصود ومريب في هكذا حالات يفترض أنها طارئة. وفجأة تذكر سلامة التعميم المذكور بعد بيان الخزانة الأميركية الذي حمله المسؤولية بشكل غير مباشر عندما طلب بذل جهد اضافي من مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة بشأن الانتهاكات التي يمارسها السياسيون في القطاع المصرفي. فهل تنفع الحاكم المماطلة هذه المرة أيضاً، أم أنه بات محشوراً أكثر، خصوصاً وان الخزانة الاميركية تعلم أنه المعني الأول بفرض عقوبات على البنوك غير الملتزمة، أو غير المشاركة للمعلومات المصرفية التي بحوزتها عن انتهاكات السياسيين في النظام المصرفي. والسؤال هو: ماذا ستفعل تلك السلطات التي كانت تركز في السابق على مكافحة تمويل الإرهاب، وتعقب خرق "حزب الله" للنظام المالي فقط، فهل ستطلب تسليمها اسماء من لم يلتزم من فئة النافذين باعادة جزء من تحويلاتهم الى الخارج؟ على أي حال، الأميركيون ينتظرون أجوبة سريعة ما دفع بسلامة الى طلب المعلومات من البنوك قبل نهاية الشهر الحالي، كما طلب الايداعات النقدية التي قام بها النافذون السياسيون ومتعاطو الشأن العام لا سيما وظيفياً.

مجموعة العمل المالي الدولي (التابعة لـ G8): تراجع تصنيف لبنان... رمادي أو أسود؟


لم يفت رياض سلامة الاسبوع الماضي التذكير أيضا بما طلبته مجموعة العمل المالي (فاتف) لتقويم منظومة مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب في لبنان. مع فحص دقيق لفعالية آليات عمل كل الجهات المعنية، ومنها الجهات التنظيمية والرقابية وفي مقدمها مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة، وجهات انفاذ القانون (قوى أمن وجمارك...) والجهات القضائية المختصة ( جهات الادعاء والقضاء العدلي ومدى التعاون القضائي الدولي). وسيجري أيضاً فحص عمل الجهات المشرفة على الجمعيات غير الهادفة للربح في وزارة الداخلية والاشخاص المعنويين (السجل التجاري)، مؤسسات القطاع الخاص المالي وغير المالي بمن فيهم كتاب العدل والمحاسبون المجازون والمحامون. بالاضافة الى أمور تفصيلية أخرى محددة في مجموعة العمل المالي. وستصدر بنتيجة هذا التقييم توصيات وخطة عمل ليقوم لبنان باتخاذ ما يلزم مع الجهات المختصة لتنفيذها.

ويذكر ان مجموعة العمل المالي هيئة (حكومية) دولية انبثقت من مجموعة الدول الثماني G8 وتعمل على سلامة النظام المالي الدولي. توصياتها بمثابة معيار دولي لمكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب. تراقب التقدم الذي يحرزه اعضاؤها في تنفيذ الاجراءات، وتراجع أساليب غسل الاموال وتمويل الارهاب والتدابير المضادة وتحدد أوجه القصور لمعالجتها. وقبل أيام ادرجت المجموعة دولة الامارات في القائمة الرمادية. وهذا ما قد يصيب لبنان وفق المؤشرات الأولية المتداولة بين المعنيين، والمتأرجحة بين الرمادي والأسود بسبب الخروقات والمخالفات التي أصابت القطاع بفعل الأزمة.

عواصم تحاصر سلامة وبنوك... من سويسرا الى بريطانيا وفرنسا واللوكسمبورغ وقبرص


الى تلك المحاصرة الدولية، تضاف القضايا المرفوعة ضد رياض سلامة في عدد من الدول الأوروبية خصوصاً سويسرا واللوكسمبورغ وفرنسا، والتي باتت مقتنعة بعقم تعاون القضاء اللبناني المتقاعس في جزء منه عن القيام بما يجب لاستكمال التحقيقات محلياً، وتسليم الجهات الدولية المدعية نتائح استكمال الاستقصاءات لمقابلتها مع عناصر الادعاء بشبهات الاختلاس وتبييض الاموال. الى ذلك، هناك بعض المحاصرة الدولية لعدد من المصارف اللبنانية في الخارج لا سيما في قبرص التي فرضت على البنوك اللبنانية هناك شروطاً شبه تعجيزية مثل تكوين احتياطيات الزامية بنسبة 105% من الودائع وفرض رسم سنوي بنسبة 5 بالألف على هذه الضمانات. كما أن السلطات الفرنسية تدرس أوضاع فروع البنوك اللبنانية، وما اذا كانت تلبي شروط بقائها في فرنسا بعد الزلزال الذي اصاب المصارف الأم في لبنان. وتراقب دول كثيرة حول العالم ما تقوم بها مصارف لبنانية لجهة اقفال متعسف لحسابات لبنانيين مزدوجي الجنسية بعد صدور حكم في لندن يلزم مصرفين برد الودائع لاصحابها بالعملات الاجنبية كاملة غير منقوصة.

هل دقت ساعة الحقيقة بالتوقيت الخارجي؟

خلاصة القول أن شراء الوقت الذي مارسه حاكم مصرف لبنان بحماية وطلب رعاته وحماته السياسيين يشرف على فقدان رصيده. فاذا كانت المماطلة والمواربة والتمييع نفعت منذ سنوات، ها هي اليوم تصطدم بقرار دولي متعدد الأبعاد لإعادة تنظيم هذه الفوضى اللبنانية المصرفية العارمة، وربما محاسبة بعض مرتكبي موبقاتها.. من يعلم؟