وهبي قاطيشه

روسيا ولعنة الجغرافيا... أين غورباتشوف الثاني؟

21 آذار 2022

02 : 01

لا يُمكن لبوتين أن يحكم روسيا اليوم بعقل الإتحاد السوفياتي (أ ف ب)

فتح دخول الجيش الأحمر إلى أوكرانيا جراحاً تاريخية، عانت منها روسيا عبر تاريخها الطويل. فكيف لهذا البلد الأكبر مساحة في العالم (17.1 مليون كلم مربع)، والأغنى بالمواد الطبيعية والاستراتيجية، والممتدّ من بحر البلطيق والبحر الأسود في الغرب، إلى مضيق «بيرينغ» على مسافة 40 كلم فقط من الولايات المتحدة الأميركية في ولاية «ألاسكا» في الشرق، كيف له أن يفكر بإخضاع دولة جارة، منتحلاً أعذاراً لغوية وتاريخية وأمنية... لا تمتّ إلى عالم اليوم وتداخله وتواصله وتكامله بصلة؟

يؤكد «ماكيندر»، الاستراتيجي الإنكليزي، في مستهلّ القرن العشرين، أن «الجغرافيا هي العنصر الأهم في الديبلوماسية والاستراتيجيا، لأنها الأكثر ثباتاً». فالجغرافيا الروسية، واسعة، بعيدة، محاصرة ومحمية. واسعة، لأنها الأكبر مساحة. بعيدة، بسبب صعوبة الوصول إليها واجتياحها وتغطيتها بسبب اتّساعها وطبيعتها الباردة. محاصرة، أوّلاً بسبب الكثافة السكانية نسبياً المنتشرة على أطرافها، وثانياً لافتقارها إلى بحارٍ مفتوحة ودافئة تؤمّن لها التواصل بسهولة مع العالم. وأخيراً محمية، بسبب طبيعتها الباردة.

فالإمبراطور الفرنسي أُصيب في موسكو بأوّل هزيمة له بعد 15 من الإنتصارات في أوروبا. والجيش الألماني أُصيب في ستالينغراد بأوّل هزيمة له في الحرب العالمية الثانية. إنها الطبيعة التي هزمت الإمبراطور والفوهرر قبل الجيوش. فـ»الجنرال الشتاء»، أنقذ روسيا مرتين سواء كانت قيصرية أو ستالينية، من الإحتلال من قبل دولةٍ أوروبية. هذه الجغرافيا الروسية الخاصة، هي التي طبعت فكريّاً الشعب الروسي قادة ومواطنين عبر التاريخ، والغالب فيه شعور دائم بالحصار والإستهداف.

عندما يتحدث الساسة والاستراتيجيون عن روسيا، يتكلمون بالأفضلية عن هوسها التاريخي بالوصول إلى المياه الدافئة. هذا الهوس نابعٌ من جغرافيّة روسيا الطبيعية التي طبعت الشعب الروسي وقادته بـ»عقدة « الحصار للأسباب الآتية: أوّلاً، إنفتاحها الضيق على بحر البلطيق، والذي لا يسمح لها بالوصول إلى المحيط الأطلسي المفتوح إلّا عبر المضيق الاسكندينافي. وثانياً، إنفتاحها المحدود على البحر الأسود، والمحكوم أيضاً بمضيقي تركيا، البوسفور والدردنيل، قبل أن تبدأ رحلتها في البحر المتوسط إلى البحار الدافئة. وثالثاً، لأن انفتاحها على المحيط الهادئ في مدينة «فلاديفوستوك» شرقاً، لا يُشكّل أهمية لوضعها الاستراتيجي في كثافتها السكانية في أوروبا، بينما لا يمنحها القطب الشمالي، حيث تحظى بأوسع انفتاح مائي وندرة سكانية وعمرانية، مساحة استراتيجية دولية تجارية أو عسكرية. من هنا كانت عبارة «المياه الدافئة» في الوجدان التاريخي السياسي والاستراتيجي الروسي.

جغرافيّة روسيا هذه، شبه المحاصرة مائيّاً، أضفت عليها طابع العزلة والإنزواء. وهكذا نجد أن الحروب الروسية عبر التاريخ لم تحصل في بلاد بعيدة، إنما اقتصرت على محيط الأرض الروسية: في آسيا الوسطى وتركيا وجبال القوقاز وأوروبا الشرقية. وكانت بمعظمها لتخفيف الإختناق عن الأرض المحاصرة.

عقدة الحصار التي طبعت القادة الروس، لم يتحرّر منها القادة السوفيات، لأن انتشار الدول الحليفة للإتحاد السوفياتي على مساحات القارات، في أنظمة تدور في فلك موسكو، لم تحل مشكلة الحصار البحري بالمضائق التي تقفل على الأساطيل الروسية البحار المفتوحة، بعد أن تطورت الاستراتيجيات في بداية القرن العشرين، وأصبحت الكرة الأرضية كلها، ببحارها وأجوائها، مسرحاً واحداً مترابطاً لعمليات القوى الكبرى الباحثة عن السيطرة. واكتفت موسكو بعد الحرب العالمية الثانية، باستحداث «درعٍ» من دول أوروبا الشرقية شكّل لها مجالاً حيوياً يؤمّن لها الحماية البعيدة عن أرض الأجداد، ويجنّبها تجربتَيْ نابوليون وهتلر.

ينطلق بوتين في استراتيجيته اليوم معتبراً أن سقوط جدار برلين وانهيار الإتحاد السوفياتي كان خطأً استراتيجيّاً فظيعاً، وهو يعتقد أن الشعب الروسي لن يُسامح في المستقبل القادة الذين سلّموا بهذا السقوط. ويبدو أن سلوك بوتين على مدى أكثر من عقدين من حكمه روسيا، كان بمعظمه بمثابة ردة فعلٍ لمحوِ «عار» هذا السقوط، كما حصل سابقاً في منطقة القوقاز، واليوم في أوكرانيا، وغداً قد يكون في كازاخستان أو دول البلطيق الثلاث أو... بحجة توحيد الناطقين باللغة الروسية (كما فعل هتلر)، أو حماية الوطن الأم بستارٍ حديديٍّ جديد.

أطلق «ماكيندر» نظريته الاستراتيجية في مستهلّ القرن العشرين عندما كانت الجغرافيا الطبيعية وتضاريسها تُشكل العنصر الاستراتيجي الأهم في السياسة والديبلوماسية. لكن، ومع الدور الذي لا تزال تلعبه الجغرافيا الطبيعية ولو متضائلاً، إلاّ أن الدور لـ»الجغرافيا» بالمفهوم الحديث لا يتوقف اليوم على الجبال والأنهر والحواجز الطبيعية والتضاريس، إنما يُضاف إليه سرعة الإنتقال والإتصالات، تعاظم دور البحار، التطور التقني والصناعي، الفضاء الخارجي، التواصل والتداخل بين الشعوب، السلاح النووي... خصوصاً هذا الأخير الذي أعطى بعداً جديداً وحاسماً في الإستراتيجيات الحديثة. لذلك، لا يُمكن لبوتين أن يحكم روسيا اليوم بعقل الإتحاد السوفياتي، لأن الأهم بالنسبة إلى روسيا وشعبها أن يتواصل هذا الأخير مع العالم وأن يكتسب المعرفة للدخول إلى عصر العولمة الذي يؤمّن الإزدهار للشعب الروسي.

يرفع بوتين اليوم، وللمرّة الأولى في تاريخ الحروب، سقف المواجهة العسكرية من التقليدي إلى النووي. فالسلاح النووي منع منذ العام 1945 الحروب المباشرة بين القوى التي تمتلكه. فاكتفت هذه القوى بإدارة الحروب عن بُعد بواسطة شعوبٍ ودولٍ أخرى. لكن عندما تخوض روسيا اليوم هذه الحرب مباشرة، وتُهدّد بالنووي أو الكيماوي الذي لا يقلّ خطراً عن النووي، يعني أنّنا مقبلون على مرحلة جديدة قد تكون الأخطر في تاريخ الإنسانية، خصوصاً عندما نرى بداية حربٍ إقتصادية عالمية لا تزال حدودها الهشة مضبوطة. لكن أي تفلُّتٍ لهذه الحدود الهشة وتعاظم ارتداداتها على الشعب الروسي، قد تقود بوتين، بفكره السوفياتي الإستخباري، إلى التصعيد ولو أدّى ذلك إلى المحظور النووي.

عقدة «المياه الدافئة» لم تعد اليوم صالحة للهيمنة في عصر انحسار دور الجيوش في تعزيز السيطرة والنفوذ. إنه عصر التكنولوجيا الذي يفتح الأبواب واسعة أمام الشعوب للإبداع. إنه عصر الحرّية والإنفتاح. فهل من غورباتشوف ثانٍ اليوم في موسكو لقيادة هذا الإنفتاح؟

MISS 3