المحامي راضي بطرس

لإعادة إطلاق القطاع المصرفي وعجلة الاقتصاد

على الدولة اتخاذ إجراءات زجرية تحفظ حقوق المودعين

28 آذار 2022

02 : 00




كثرت التساؤلات مؤخراً عن الودائع النقدية، وما اذا كان من الممكن مقاضاة المصارف تحصيلاً لها.

قبل الغوص في موضوع الودائع والمصارف يقتضي توضيح الأمور التالية:

ان النظام الاقتصادي في لبنان حرّ يضمن المبادرة الفردية، ويحمي الملكية الخاصة. (وفق ما جاء في مقدمة الدستور).

والوديعة في القانون العام عقد بمقتضاه يسلّم المودع للوديع شيئا منقولاً يلتزم هذا الاخير بحفظه وردّه (690 م.ع).

اما اذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود او أشياء من المثليات، وأذن المودع للوديع باستعمالها عدّ العقد عارية استهلاك. (691 م.ع)

ونصت المادة 307 من قانون التجارة على ان المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له، ويجب عليه ان يرده بقيمة تعادله دفعة واحدة او عدة دفعات عند أول طلب من المودع او بحسب الشروط والمهل ...المعينة في العقد...".

كما فرضت المادة 156 "نقد وتسليف" على المصارف مراعاة القواعد التي تؤمن صيانة حقوق المودعين في الاموال التي تتلقاها من الجمهور.

وفرضت المادة 168 (نقد وتسليف) تسليم دفتر الى صاحب حساب الادخار يكون بمثابة سند دين على المصرف.

وقد فرضت القوانين اللبنانية مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود (المادة 221) والركون الى الاعراف المتوطدة (المواد 4 ا.م.م -371 م.ع – 4 تجارة برّية)

القواعد والموجبات

وفرض مصرف لبنان على المصارف سنة 2006 "code of conduct" اي القواعد الاخلاقية وحسن السلوك وأضاف موجبات عليها بموجب القرار الاساسي رقم 11947 تاريخ 12/2/2015، اهمها:

• التعامل بشكل عادل ومنصف ومهني مع العملاء.

• تزويد العملاء بالمعلومات الدقيقة والواضحة والوافية حول شروط المنتجات او الخدمات ومنافعها والمخاطر المتأتية عنها واعلامهم بأي تغيير لهذه الشروط.

•وضوح وشفافية وشمولية الاعلانات وعدم تضليلها لحقيقة خصائص المنتج او الخدمة.

كما فرض القانون في الايفاء ان يتمّ بين يديّ الدائن، وأعطى الاولوية للإيفاء العيني للموجب (وهنا نشير الى ان القواعد التي ترعى موجبات المصرف كمدين للمودعين تختلف عن القواعد التي ترعى علاقته بصفته دائناً للمقترضين منه لوجود قانون حماية المستهلك واحكام قانون النقد والتسليف التي ترعى الحالة الاخيرة.)

الموجب والعقد

تبعاً لما تقدم، ولدى توقيع عقد الوديعة او فتح حساب جارٍ او وديعة مجمدة لفترة معينة يقتضي اولاً تحديد سبب الموجب وسبب العقد.

فسبب الموجب للعميل الراغب في فتح حساب لدى المصرف يتلخص بوضع امواله في مكان آمن و/او الاستحصال على فائدة. اما سبب العقد له فيتمثل بامكانية التصرّف بأمواله عند رغبته بذلك في حال كان الحساب جارياً او تقاضي الفائدة والتصرف بأمواله لدى الاستحقاق في حال كان الحساب مجمداً.

اما سبب الموجب للمصرف فهو امكانية استثمار الاموال المودعة لديه، وتأمين الخدمات المصرفية للعميل لقاء عمولة يتقاضاها، اما سبب العقد فيتمثل بالاستحصال على كتلة نقدية اكبر واوسع لاستثمارها والاستحصال على عدد اكبر من العملاء لتسويق منتجاته.

في لبنان، خرقت المصارف جميع القوانين و مبادئ حسن النية في التعاطي مع عملائها والاعراف التجارية. وأهملت موجباتها لناحية معاملة العملاء بعدل وانصاف مفضلة البعض على البعض الآخر، فارضة سقوفاً للسحوبات من دون وجود قانون "كابيتال كونترول" مانعة السحوبات بعملة الحساب، مانعة التحاويل الى الخارج بالرغم من ملاءة أصحاب الحسابات ... و أهملت ايضا القواعد التي تؤمن صيانة حقوق المودعين، وشجّعت العملاء على ايداع اموالهم وتجميدها لديها لفترات طويلة، من دون اعلامهم بالمخاطر المحدقة بالقطاع المصرفي الناتجة عن الهندسات المالية، وإهمال الضمانات في إقراض الدولة وإفادة بعض المودعين المحظيين من المعلومات لتمكينهم من تحويل اموالهم الى الخارج على حساب باقي المودعين، وأقدمت على عرض منتجات جمة من سندات تفضيلية الى سندات دين وعينت موظفين لديها كممثلين لجمعيات الدائنين. وأقدمت على إقفال حسابات مصرفية تبعاً لمطالبة العملاء بأموالهم او إيفائهم عن طريق ايداع شيكات مصرفية لدى دوائر الكتاب العدل، وغيرها من الممارسات المخالفة للقوانين والاعراف التجارية و مبدأ التعاطي بحسن نية.

كيفية المداعاة

فمداعاة المصارف جزائياً هي شبه مستحيلة لعلة ان المادة 20 من قانون اصول المحاكمات الجزائية اشترطت لملاحقة مصرف إذن حاكم مصرف لبنان، يضاف الى ذلك احكام المادة 307 تجارة برية التي تعتبر الوديعة ملكاً للمصرف ما ينفي امكانية المداعاة على أساس إساءة الامانة.

فما هي الطرق المتاحة لصاحب الوديعة النقدية المستحقة لإنصافه؟ مع الاخذ بالاعتبار اهمية القطاع المصرفي للاقتصاد اللبناني.

اتاحت المادة 579 ا.م.م لكل صاحب حق تمّ الاعتداء عليه، مراجعة قضاء الامور المستعجلة لرفع التعدي الواضح على الحقوق المشروعة، او منح سلفة وقتية على حساب الحق غير المتنازع فيه، الثابت وغير القابل لنزاع جدي. ما يفتح المجال امام المودعين بمراجعة قضاء الامور المستعجلة لرفع تعدي المصارف على حقوقهم او لمنحهم سلفة وقتية. وقد سبق ان صدرت عدّة قرارات عن قضاء الامور المستعجلة في هذا الاطار سنة 2020.

لكن المصارف اخذت موقفاً عدائياً تجاه من يقاضيها عبر اقفال حساباته لديها او ايداع رصيد حسابه لدى دائرة الكاتب العدل، الامر الذي فضلاً عن انه غير قانوني كون الشيك المصرفي لم يعد وسيلة ايفاء تبعاً لعدم امكانية تقاضي قيمته نقداً، ما يحرم المستفيد من حق التصرّف بملكيته المصانة دستورياً و قانونياً، فهو يعتبر خرقاً لموجب السرّية المصرفية (المادة 2 من قانون السرية المصرفية تاريخ 3/9/1953) الذي يعاقب بالحبس من ثلاثة اشهر الى سنة كل من يخالف احكامه.

يضاف الى ذلك، لدى رفض العرض الفعلي والايداع يصبح العميل الذي اودع المصرف شيكاً مصرفياً لدى الكاتب العدل لايفائه حقوقه مرغماً على التقدم بدعوى لابطال العرض والايداع خلال 10 ايام من تاريخ رفضه له . فضلاً عن امكانية مداعاة مدراء وموظفي المصرف جزائياً بجرم خرق السرية المصرفية كونهم كشفوها اقلّه للكاتب العدل وللمباشر المكلّف التبليغ.

اما في ما يتعلّق بالحسابات المستحقة بالليرة اللبنانية، فالعميل الدائن الذي يطالب بحقوقه (قيمة حسابه) ويتمّ رفض تسليمه قيمة وديعته نقداً، يصبح في موقع الدائن صاحب حق في دين مستحق الاداء ويصبح المصرف في حالة امتناع وتأخير في تسديد الدين المستحق بذمته.

الامر الذي يتيح للعميل اضافة الى امكانية مراجعة قضاء العجلة، ان يتقدم بدعوى تعويض عن تدني قيمة العملة مستنداً بذلك الى احكام المادة 124 م.ع واحكام الوكالة المأجورة لتحميل المصرف مسؤولية تضاؤل القدرة الشرائية لأمواله المودعة لديه.

القوة القاهرة؟

والمصارف للاسف تتحجج بالقوة القاهرة وبكون الملاحقات المساقة ضدها تشكل خطراً على الاستقرار المالي للبلد. ومؤخراً تتحجج بان الملاحقات تمسّ مبدأ المساواة بين المودعين لعلة ان من تقدم بدعوى يحصّل حقوقه على حساب باقي المودعين، كما تستند في بعض الاحيان الى تعاميم ورقابة مصرف لبنان عليها، الامر الذي يوجب التعليقات التالية:

- من المتعارف عليه قانوناً فقهاً واجتهاداً انه: "لا يصغى الى قول من يستفيد من سوء عمله" والمصارف قد أساءت الى المودعين الى درجة الابتزاز والاستنسابية في التعاطي وحجز الاموال وتحديد سقوف للسحوبات.... ما ينفي حقها في الاستفادة من ممارساتها غير القانونية.

- نصت المادة 205 نقد وتسليف: "لا يمكن لمصرف او مؤسسة مالية التذرع بالرقابة التي يقوم بها المصرف المركزي للتملص من المسؤوليات المدنية او الجزائية التي قد تكون وقعت عليهما" ما ينفي امكانية الركون الى تعاميم ورقابة مصرف لبنان للتهرّب من المسؤولية المدنية او الجزائية.

- سندا للمادة 2 ا.م.م التي كرّست هرمية القواعد القانونية، وفرضت على القضاء اعطاء الاولوية للقاعدة الاعلى على القاعدة الادنى، اي يتقدّم القانون على التعاميم التي تنزل منزلة قرار اداري. ما ينفي المفاعيل القانونية للتعاميم المخالفة للقانون.

- اما مراعاة مبدأ المساواة بين المودعين فكان أجدى بالمصارف لو تذكرته عند ممارستها الاستنسابية في التحاويل الى الخارج، فلا تستطيع المصارف التمسك بمبدأ خرقته وعندما يكون في مصلحتها.

- اعتبر اجتهاد المحاكم اللبنانية بان الازمة الاقتصادية كانت متوقعة من المصارف كونها ناتجة عن الهندسات المالية وبالتالي نفت عنها حالة القوة القاهرة.

يضاف الى ذلك، ان الازمة الاقتصادية كانت مصحوبة مع خطأ المصارف في التعامل مع المودعين وابطائها القصدي في تنفيذ موجباتها تجاه عملائها ما يبقي كافة موجبات المصارف قائمة (المادة 342 م.ع).

اما المصارف ، فلا شك بان وجودها يعتبر ضرورة ملحة للاقتصاد والتجارة والتعاملات الدولية، فصيانتها ضرورة ملحة.


MISS 3