عيسى مخلوف

تسعون دقيقة مع بيتهوفن

2 نيسان 2022

02 : 00

يَمثُل أمامنا هذا المشهد: قناعٌ أبيض لوجه بيتهوفن، يرتفع وسط الخشبة وتتركّز عليه إنارة خفيفة. وراء القناع وجه آخر حيّ، وذراعان تتحرّكان وفق إيقاعات مَطلع السيمفونية الخامسة. ثنائيّة الحركة داخل هذه الموسيقى تعلن، منذ اللحظة الأولى، عمّا يعتمل داخل النفس البشريّة من عَصْف وصفاء، في مزيج متآلف قلّما بَلَغته اللغة الموسيقيّة عبر العصور.

إنّه المشهد الأوّل من "اعترافات بيتهوفن" التي تُقدَّم الآن، وحتّى منتصف شهر تمّوز المقبل، في مسرح "بوفّ باريزيان"Bouffes Parisiens في باريس، وهي من تأليف الكاتب اللبناني باللغة الفرنسيّة ألكسندر نجّار، وإخراج فرانسواز بُوتي، وقد جسّد دور بيتهوفن فيها الممثّل الفرنسي جان فرنسوا بالميه، يرافقه على البيانو نيكولا شيفرو.




نحن هنا أمام بيتهوفن في حياته اليوميّة وفي إبداعه، اعترافاته وبَوحه، حيرته مع نفسه وصعوبة التواصل مع الآخرين، وأخيراً، معاناته وتطلّعاته. وهو يروي، كأيّ إنسان آخر، علاقته المعقّدة مع والده الذي أساء فهمه، وعلاقاته العاطفيّة التي باءت بالفشل. يتحدّث أيضاً عن أوهامه السياسيّة وخيبة أمله حيال نابليون بونابرت، وكان بيتهوفن قد أهداه السيمفونيّة الثالثة، ثمّ سحب الإهداء بعد أن اكتشف أنّ بونابرت "رجل كسائر الرجال"، يتحرّك تحت راية السلطة والطغيان. لذلك، أخذ الموسيقيّ سكّيناً ومرّره على الصفحة الأولى من صفحات توليفته الموسيقيّة، ومزّق موضع الاسم المهداة إليه هذه التحفة الفنّيّة.

ومن المحطّات التي حفرت في نفسه ودفعته نحو العزلة والصمت، بل نحو الاقتراب، أكثر فأكثر، من ينابيع حياته الداخليّة، ضُعفُ السمع الذي بدأ يعاني منه قبل بلوغه الثلاثين من عمره. تَراجُع سمعه تركَ أثره على طبيعة تأليفه الموسيقي، بحسب دراسة قام بها متخصّصون ونُشرت نهاية العام الماضي في "المجلّة الطبيّة البريطانيّة". صار بيتهوفن، في تأليفه الموسيقي، يخفّف من اللجوء إلى بعض الآلات الموسيقيّة التي اختفت عنه ألحانها قبل غيرها، ومن استعمال النوتات المرتفعة والحادّة. وحين قدّم في العام 1824، في فيينا، وللمرّة الأولى، السيمفونية التاسعة، كان قد وصل إلى الصمم التامّ. وكان الخلاص الوحيد، بالنسبة إليه، ولعه بالموسيقى التي منحته الحبّ الذي فقده. ولقد واصل عزفها حتّى عندما لم يعد في مقدوره الاستماع إليها، ولا إلى تصفيق الجمهور لعطائه المتفجّر الذي مثّلته موسيقاه وهديرها الأشبه بهدير مكتوم داخل البحار والمحيطات، والتي جعلت أعماله جزءاً من عناصر الطبيعة في بعض تجلّياتها العظيمة. ومن هذه التجلّيات ما طالعنا على الخشبة الباريسيّة من خلال مقطوعات مختارة، من عدّة سوناتات مدهشة، حوّلت المشهد المسرحي مشهداً فنيّاً موسيقيّاً بامتياز.

هكذا كان يتحرّك العمل، من أوّله إلى آخره، كبندول ساعة يتأرجح جَيئةً وذَهاباً، كما يمضي صوت الممثّل وأداء العازف ليلتقيا معاً في مصبّ واحد. هذان الصوتان يختصران، على نحو ما، سيرة بيتهوفن ونتاجه، وكذلك مسار القلق الذي كان يحتدم في داخله، والذي تحوّل قوّةً خلاّقة وطاقة جَذب وجمال. غير أنّ نبوغ بيتهوفن لم يكن يصف الواقع، ولا يتأثّر به بشكل مباشر، بل يتجاوزه ويضيف إليه، لذلك فهو موجود فيه أصلاً، مثلما توجد النواة داخل الثمرة. كان مؤمناً بالفعل الموسيقي وأثره على الإنسان، لأنّ الموسيقى، وفق رأيه، "ترتفع عالياً وترفعنا معها وتخلّصنا من الغباء". من عالمه الداخلي يأتي بيتهوفن. وهو القائل: "ما يأتي من القلب يذهب إلى القلب". من هناك يتسرّب الإيقاع أوّلاً، يزيح الضباب ويعرّي الأفق، ويَعِد بفجر جديد، ككلّ فنّ عظيم.

لم يكن من السهل الوصول إلى "اعترافات بيتهوفن" بهذه الصيغة التي قدّمت إضاءة جديدة على تجربة متفرّدة، لولا الغوص الذي قام به ألكسندر نجّار في حياة بيتهوفن ونتاجه، ولولا قراءة ما كُتبَ عنه، وما كتبه الموسيقيّ نفسه، لا سيّما في رسائله التي بلغت 1750 رسالة. وممّا جاء في تلك الرسائل: "لا سند لي إلاّ في أعماق نفسي. الصداقة والمشاعر المماثلة لا تأتيني منها إلاّ الجروح". وفي أعماق نفسه، كأنّما في آنية مقدّسة، كان بيتهوفن يعثر على أنهار الموسيقى المتدفّقة، وعلى كنوزها التي تضمّد الجروح، تأخذه إليها وتؤاسيه، كما ألوان الغروب تؤاسي القلوب الحزينة. ألم يقل نيتشه إنّ "الحياة بدون موسيقى خطأ وتَعَب ومنفى"؟