د. سيلفا بلوط

"أدب الحياة" للمعلّم كمال جنبلاط

5 نيسان 2022

02 : 00

أدب الحياة

يتبدّى إستحضار فكر المعلّم كمال جنبلاط ضرورةً لسببَين. بالنسبة إلى الأول، وكما هو معلوم، يأتي السادس عشر من آذار ليمثّل ذكرى استشهاده الذي أفقد لبنان قامةً وطنيّةً وعربيّة عملت على صون هويّته و استقلاله. أما في ما يتعلّق بالثاني، فيتمثّل في حاجة المجتمع اللبنانيّ إلى استعادة التمسّك بالجوهريّات بعد أن أضحت السطحيّات غايات الكثير من ابنائه الذين أمعنوا في إسقاطه نحو هوّة يصعب الصعود منها. ممّا انعكس، سلباً، على نواحي الحياة كافة وأبرزها السياسيّة.

ينطوي كتاب " أدب الحياة " (صدر سنة 1974) على فلسفة وجود، ونقد ذاتي، واستشراف للمستقبل. ويعرض المعلّم، من خلال صفحاته، الحياة بكلّ بساطتها، وغناها، وفلسفتها. ويُسقط مع هذا العرض، في آن معاً، شخصيته البسيطة، والغنية، والحكيمة. وكأن هذه الحياة مرآة لهذه الشخصية التي طالما شكّلت ضمانة لاستقلال لبنان، وديمقراطيته، ورقيّه، إلى أن قدّمت حياتها "قرباناً" على مذبح هذا الوطن.

لا بدّ من الإقرار، قبل البدء بمقاربة موجزة "لأدب الحياة"، بفرادة شخصيّة المعلّم التي تجمع بين طيّاتها الفيلسوف، والأديب، والزاهد، والمتصوّف، والعالِم والبسيط، والعادي، وكأنها كلّ معقّد ومرن في آنٍ معاً.

من هنا، نشهد أن قراءة المعلّم هي قراءة إستثنائيّة، و قراءة حياة في جوهرها. فكلّ مرة نقدم فيها على هذه القراءة، نكون في حضرة عالم جديد، ننهل منه من قيم الحياة ما استطعنا، ينتابنا شعور جامح بأننا بحاجة إلى المزيد منها. وندرك تماماً خطورة الإنحراف عنها، وأسباب تعاسة مجتمعنا وتخلّفه على الصعد كافة، خصوصاً، وأن المعلّم كان يسعى إلى إحداث تغيير نوعيّ في البنية التوعويّة والذهنيّة للمجتمع اللبناني، بعيداً عن المواقف الضيقة والدهاليز الفئويّة. كما كان يأسف لعدم تسلّح المجتمع اللبنانيّ بأدب الحياة، وامتناعه عن تبنّيه من الجانب النظريّ، ليصار إلى تطبيقه واقعياً وعملانياً من خلال بناء برنامج موضوعي ينسجم مع نسيجنا الإجتماعي، واستقراره وديمومته.

إن الوجود يتجلّى بكلّيته، بالنسبة إلى المعلّم، في "أدب الحياة"، لأن هذا الأدب يتمثّل في احترام الذات أولاً، ومن ثمّ في احترام الآخرين. و يقدّم نموذجاً عن حضارة إفتقدناها بعد أن تمسكّنا بالقشـور وهـجـرنا، إذا جـاز التعبير، "الجوهريّات".

ولا ينحصر "أدب الحياة" في جانب واحد من الإنسان، بل يتناوله، كالوجود، بكليّته، ويطال كافة جوانب حياته الجسدي منها والنفسي والسلوكي، والعلائقي وصولاً إلى الحيّز السياسي. لأن الإنسان، بالنسبة إلى المعلّم، مثله مثل حريته، وأمنه، وستقراره، وحتى حقوقه، غير قابل للتجزئة.

ويبرز النقد، بقوة، في "أدب الحياة" ويطال، على نحوٍ خاص، "أدب السياسة" وأنظمتها مثل الإشتراكية والشيوعية، ويعترف المعلّم بفشلها وعجز آليّتها البيروقراطية عن إنتاج نخبة فكريّة فاعلة، وبناء "الإنسان والمجتمع المتكاملين". و قد نلمس هنا، بشكل ساطع وواضح، إقراره كذلك بفشل نسبي لحزبه الإشتراكي.

و يشمل نقده، أيضاً، كلّ أحزاب لبنان التي غذّت الإنتماءات العصبية الضيقة بدل الولاء للوطن، ممّا أدّى إلى إغراقه في وحول ما يسمى "مستنقعات التعصب الطائفي"، ودكّ نظامه الديمقراطي، والوصول إلى هذا الدرك من المستوى السياسيّ. و يتبدّى في هذا النقد بالذات مدى مصداقية المعلم وشفافيته اللتين بتنا نفتقدهما في الحياة السياسية اللبنانية. فهو قد أيقظ فينا روح الشجاعة ومبدأ الشفافية، ودفعنا إلى القيام بقراءة نقدية ذاتية نفنّد، من خلالها، قدر المستطاع، عيوبنا، لتقويمها و تجنّب الوقوع فيها. ولا يخفى ما لهذا النقد الذاتي البنّاء من إفادة، إن كان على المستوى الفردي، أو على مستوى الجماعات، أو الدول، فهو يشكّل ركيزة أساسية للتقدّم، ولدعم الديمقراطية السليمة.

ويشكّل "أدب الحياة"، على هذا النحو، حتى بالنسبة إلى العملية الديمقراطيّة إستشرافاً لما يحصل في مجتمعنا الآن. كما لو أن ظروف لبنان السياسيّة وحيثياتها، في أيام المعلّم، دفعته إلى رؤيةٍ مسبَقة، أو بتعبير آخر إلى التنبّؤ بما حدث ويحدث من تشويه لهذه العملية، ومحاولة لإضعافها، وخصوصاً بعد أن أدّى مسارها، عجز الأحزاب والتيارات السياسية إلى الفشل في إنتاج نخب فكريّة فاعلة. ومثّل هذا التشويه، حسب توصيف المعلّم، شكلاً من أشكال الهرطقة السياسيّة. و يقرّ المعلم، في هذا السياق، لتوضيح أسباب نقده لهذه الوضعيّة أنه عايش جيلاً من الناس أغرته مفاهيم كثير في سطحيتها كالديمقراطية والسيادة الشعبية والتقدّم والتحرّر والإشتراكيّة. لكن من الملاحظ، أن هذا الجيل لم يعِ تماماً هذه المفاهيم، وأخفق في النفاذ إلى حقيقتها، أي إلى جوهــرها. وللأسف، فإنه لم يتمّ التخلّص، إلى الآن، من هذه المعضلة.

خلاصة القول، اننا مهما حاولنا مقاربة "أدب الحياة" وتعدّدت أبعادها، نبقى عاجزين عن إيفاىه حقه، وحق مؤلفه الكبير، لأن الحياة مع المعلم كمال جنبلاط، هي فلسفة وجود باعتبارها عابرة للأزمنة والأمكنة لمجرّد أنها إنسانية بامتياز.