نجيب جورج عوض

"دبلوماسية الضحية" وفشل المعارضات السوريّة القاتل

14 نيسان 2022

02 : 05

مُنِعَ الشعب السوري الثائر عبر الأجسام المعارضة من ممارسة "دبلوماسية الضحية" (أ ف ب)

ترددت منذ فترة قصيرة أخبار عن تفاهم ما بين الأميركي والروسي، قبل الاجتياح الروسي لأوكرانيا، يقضي بأن تدفع أميركا هيئة الأمم المتحدة للتخفيف جزئياً من حدة قيود الحظر الدولي المطبقة على النظام في سوريا. وعدنا أيضاً لنسمع من جديد من بعض الأطراف في الداخل السوري نغمة التشكي من القيود الاقتصادية المفروضة على النظام السوري وأن ضحيتها هو الشعب السوري دون سواه وأن سوريا برمتها باتت ضحية التجويع والحرمان والبؤس والفقر بسبب تلك العقوبات الدولية. علماً بأنّه لا يوجد عقوبات مطبقة على سوريا برمتها أو على الشعب السوري بحد ذاته، وإنما على المؤسسات والأفراد والأطراف التي تمثل أذرعاً للنظام بالتحديد.

ما كل تلك الإرهاصات سوى تداعيات جَني النظام السوري ثمار ما يُعرَف في الفضاء السياسي والدبلوماسي بـ "دبلوماسية الضحية" (victim diplomacy)، والتي لعبها النظام، ولعب عليها، خلال سنوات الثورة والنزاعات المسلحة الإحدى عشرة الماضية. "دبلوماسية الضحية" ليست بالدبلوماسية الجديدة في تاريخ السياسة العالمية المعاصرة. هي اختراع مبتكر يُسجَّل للعقل الإسرائيلي بامتياز. فمنذ تأسيس إسرائيل، عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وببراعة وحِرَفيَّة منقطعتي النظير، على ممارسة "دبلوماسية الضحية" حول العالم، بأن شَيطَنَت الشعب الفلسطيني ودفعته عبر أدواتها الإقليمية والدولية المختلفة للتحول من "شعب مظلوم ومُقتَلَع من أرضه، بل ومُباد" إلى "جماعات مسلحة أيديولوجية ومتأسلِمَة مقاوِمَة" هدفها الأوحد هو إفناء إسرائيل ومحوها من الوجود. "دبلوماسية الضحية" قلبت المعادلة بأن خلقت سيناريو أمام العالم فيه المظلوم هو الظالم، والقاتل هو القتيل، والمُهدِّد والأقوى هو المُهدَّد والأضعف.

في المشهد السوري الذي شهدناه منذ عام 2011، علَّمَت إسرائيل (الراعي الإقليمي الأول والأقوى للنظام الأسدي في سوريا وصانع القرار الذي حَماه من الانهيار ومنع المجتمع الدولي من إسقاطه) نظام سفاح دمشق "دبلوماسية الضحية" وساعدته على الاستفادة منها، وذلك من خلال السير بمسارين متوازيين والعمل عليهما بشكل ممنهج ومدروس وعميق المعرفة بذهنية وسيكولوجية المجتمع الدولي وشروط لعبة القوة فيه. تَمثَّل المسار الأول في نزع صورة "الضحية" عن الشعب السوري الثائر من خلال دفع الأجسام المعارضة المختلفة، التي نشأت لتنطق باسم هذا الشعب، للتحول إلى طرفٍ مُقاتلٍ مُسلَّح مؤدلَج ومُتأسلِم منخرط في حرب تدميرية شعواء لا تكترث للناس ولا لسوريا وإنما يُسيِّرها تغوَّلُ شرهٌ للانتقام الطائفي ولتدمير النظام والثأر منه.

ومع انخراط كل من قطر وتركيا في المشهد السوري، عملتا، كلٌ بطريقتها، على فرض الوصاية على المعارضات السورية وعلى تحويلها إلى معارضة بالإيجار، خانعَة ومُستعبَدةَ من قبل من يمولها ويحميها ويعمل على توجيهها. قادت مقاربات القطري والتركي للمشهد السوري إلى نزع حالة "الضحية" من طرف الثورة السورية من خلال أدلَجَة المعارضة (معارضة شمولية دوغمائية همّها الهيمنة) وأسلمتها (حربُ أهل الُسنَّة في سوريا ضد الطائفة العلوية وكل من ليس مسلماً متديناً) ومن ثم عسكرتها (معارضة ميليشياوية لا تقوم بثورة بل تنخرط في حرب مدمرة وقاتلة). بسبب هذا المسار التحويري، توقف العالم عن الحديث عن "ثورة شعبية" وراح يتحدث عن "حرب أهلية" في سوريا (أكبر وأوقح كذبة إعلامية وخطابية في العقد الأخير كانت إصرار المنابر الدولية والإقليمية على الحديث عن حرب أهلية في سوريا).

نسي العالم الشعب السوري الثائر (والذي قامت الحرب ضده وعليه، وليس بسببه أو بيده) والمُشتَّت في أصقاع الأرض، وراح يتحدث عن معارضة مُتأسلِمَة مُتأدلِجَة مُتعَسكِرَة ضد نظام جمهوري كل ما يفعله أنه يجدُ نفسه يدافع عن وجوده وعن وجود بلد اسمه سوريا في وجه مؤامرة تدميرية كونية تبغي إفناءه من الوجود. أي أنَّ النظام وما يمثِّله من بشر وكيانات سورية بات هو "الضحية" التي تواجه مصيراً بشعاً من قبل معارضة شيطانية شريرة وعدمية.

مُنِعَ الشعب السوري الثائر، عبر الأجسام المعارضة التي كان من المفترض أن تدافع عنه وتنطق باسم قضيته ومَقتلَته ومأساته، من ممارسة "دبلوماسية الضحية". ورفضت المعارضات السورية بتعنُّت أن تنتبه للفخ الذي سارت إليه بقدميها، وأبت أن تستمع لقِلَّة قليلة من السوريين المعارضين المستقلين والأحرار الذين نبهوها لهذا الفخ وطلبوا منها أن تستثمر في "دبلوماسية الضحية". لم تنجح تلك المحاولات في إقناع تلك المعارضات المتعالية بأنه بالرغم من أن تلك الدبلوماسية تحقق نتائج على المدى الطويل وبشكلٍ بطيْء، إلا أنها عميقة الفعالية والتأثير في أوساط صناعة القرار ومطابخ الأفكار. لم يستمع أحد من تلك المعارضات الفاشلة في العمل السياسي والجاهلة بالعقل والتفكير الدولي لتلك النصائح ولهذا الصوت. انصاعوا لما قررته لهم الجهات الإقليمية الداعمة والراعية.

هذا كان المسار الأول الذي خدم بقاء نظام نيرون دمشق من خلال "دبلوماسية الضحية": تحويل الثائر المنتفض البريء والمظلوم من "ضحية" إلى "عدو" ومن "ثائر" إلى "ميليشيا"، أي أنه لا يحظى بعد الآن بالتعاطف من قبل المجتمع الدولي بل بالمراقبة والتقييم ومنطق المصلحة. أما المسار الثاني، والذي قد يكون نصيحة إسرائيلية لنظام دمشق المجرم، فهو أن يمارس النظام شخصياً "دبلوماسية الضحية" بدل أن يلعبها الثائرون ضده. قدم النظام نفسه منذ اللحظة الأولى على أنه دولة في مواجهة عصابات وميليشيات أصولية راديكالية إجرامية، وأنه يقف حامياً للناس العُزَّل من مجرمين ومرتزقة جاؤوا من أصقاع الأرض ليُفنوا سوريا، وأنَّ العالم برمته يقف ضده مع "الظالم" ومع "عدو البشرية" (الداعشي والمُتأسلِم والسِني الحاقد الذي يريد أن يبيد الأقليات، كما قالت أدوات النظام على امتداد العالم العربي والعالم)، وأنَّ المجتمع الدولي ينتقم منـه ويريـد القضاء على الشعــب السـوري من خــلال العقوبــات الاقتصادية والحظر الدولي على سوريا، والذي ضحيته الأولى هو الشعب وحده.

لم يعد هناك في الملحمة السورية شيء اسمه "شعب ثائر ومُقتلَع ومُشرَّد ومُباد". بات هناك "طائفة معيَّنة ونظام دولتي جمهوري شعبي" يطلب العون من كل الغيارى والمناصرين كي ينقذوه من مقتلة وسطوة وطغيان "طائفة أخرى وميليشيات مُعارِضة دموية إرهابية". "دبلوماسية الضحية" كانت الورقة التي استخدمها النظام لجلب إيران و"حزب الله" إلى المشهد السوري. ونفس "دبلوماسية الضحية" التي تلبّسها النظام دولياً جعلت إسرائيل، بموافقة أميركية ورضى ضمني عربي، تُحضِر الروسي إلى الأرض السورية كي يرعى "الضحية" ويحميها من الفناء.

تحوَّلَ النظام، إذاً، إلى الطرف الأضعف والمظلوم والمُهَدَّد وجودياً بفضل اتباعه "دبلوماسية الضحية"، والتي يتجاوب معها المجتمع الدولي ومراكز صنع القرار، بل ويفتحون لحاملها الأبواب والآذان معاً (إدارة أوباما أقنعت الأوكرانيين بممارسة "دبلوماسية الضحية" ضد روسيا، حين طلبت منهم ترك روسيا تقتحم جزيرة القرم وتستولي عليها). وتحولت المعارضات السورية إلى الطرف المُهدِّد والمُخيف والخَطير الذي لا يحظى بثقة أيٍ من السوريين أو من اللاعبين الإقليميين والدوليين، والذي يُهدِّد بحَربه الشعواء لا مصير سوريا فقط بل ومعادلة القوة الجيوستراتيجية في المنطقة برمتها. تم هذا حين مُنعَت المعارضات من تبني "دبلوماسية الضحية" ودُفِعَت، أو ربما سارت مختارة وخانعة، كي تتبنى "الصدام الميليشياوي".

اليوم، بفضل "دبلوماسية الضحية" تتم إعادة التعويم التدريجية لسفَّاح دمشق ونظامه المجرم، بحجّةِ أن أي بديلٍ عنه من قبل المعارضات السورية المذكورة سيكون كارثياً لا على سوريا (أو ما بقي منها) فقط، بل وعلى الشرق الأوسط وربما حوض المتوسط برمته. وهناك صوت حقيقي في الأوساط الدولية يُردِّد براغماتياً أن وجود دولة فاشلة متفككة ومنهارة وعاجزة لا تحكم سوريا على الأرض قد يكون أكثر رحمة للسوريين (وأكثر أماناً وفائدة لإسرائيل وللمجتمع الدولي) من أي بديلٍ ينتج عن تلك المعارضات السورية المُتأدلِجة والمُتعسكِرَة والمُتأسلِمَة. لا بل إنَّ بعض الأطراف العربية بدأت أيضاً تردد صدى نفس المنطق في نشاطاتها الدبلوماسية وتسوق له في الأوساط العربية والإقليمية.

كل هذا هو من نتائج "دبلوماســية الضحية" التي انتزعتها أطراف إقليمية من يد الثورة السورية والشعب السوري الثائر ووضعتها في يدي النظام وساعدته على تسويقها وإيجاد آذان مصغية لها ومنفتحة على التعاطي معها في المحافل الدولية. والحال أنَّ الشعب السوري، الثائر وغير الثائر، هو في الحقيقة الضحية الأولى بل والوحيدة في المأساة السورية البشعة. فهذا الشعب دفع وما زال أثماناً تفوق احتمال الجنس البشري برمته، وهو من فقد حياته ولحمه الحي ووجوده وإنسانيته حتى النخاع بسبب طرفي النزاع معاً، النظام المجرم في دمشق والمعارضات المُتأسلِمَة والمُتأدلِجَة والمُسلحَة.



النظام السوري تسبّب بمآس إنسانية لشعبه (أ ف ب)



في التاريخ العربي المعاصر، علَّمنا الشعب الفلسطيني قوة وعمق تأثير وفعالية "دبلوماسية الضحية" في تشكيل الرأي العام العالمي والمواقف الدولية. الشعب الفلسطيني يقدم في الفضاء العربي أمثولة عميقة عن ممارسة "دبلوماسية الضحية" والعمل عليها بصبر وبنَفَس طويل جداً وانتظار نتائجها المستقبلية. من يُحافِظ على استمرار حضور قضية الشعب الفلسطيني في وعي المجتمع الدولي ومن يجعل أطراف دولية حول العالم تتعاطف مع الحق الفلسطيني وتحاول الضغط دبلوماسياً على إسرائيل كي تعترف به، ليس ما تقوم به حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية، وحتماً ليس ما تقوم به حركة "حماس". إنه فقط الشعب الفلسطيني حول العالم الذي تعلَّم من العقل الإسرائيلي الذكي "دبلوماسية الضحية" وهو يمارسها ببراعة وصبر وإصرار وإيمان لا تكلّْ.

ليت المعارضات السورية تعلَّمت هذا الدرس وليتها لم تسمح لمن ادعى رعايتها ودعمها بأن يُبعدها عن تلك الدبلوماسية وأن يُغرقها في وحول شيطنة الذات وأن يجعلها أحد العوامل التي تعزِّز "دبلوماسية الضحية" التي لعبها النظام وما زال حتى هذه اللحظة. الوقت لم يفت بعد على إنقاذ الشعب السوري من مأساته، فسوريو الشتات (diaspora) يمكنهم أن يتعلموا "دبلوماسية الضحية" وأن يمارسوها في أماكن لجوئهم وعوالم حيواتهم الجديدة ويمكنهم أن يعيدوا إلى العقل العالمي والوعي الدولي حقيقة "الشعب الثائر" في سوريا وأن يجعلوها تحل محل صورة المعارضة المشوَّهة والسلبية. أؤمن أنَّ الشتات السوري الشاب يستطيع أن يحمل قضية سوريا على كتفيه وأن يمارس "دبلوماسية ضحية" فاعلة ومؤثِّرة من شأنها أن تحدث تغييراً في المستقبل الآتي.


MISS 3