نوال نصر

الإبادة الأرمنية والعجرفة العثمانية

الناقد جورج دورليان: الشعب الأرمني قاوم سلمياً وانتصر

22 نيسان 2022

02 : 05

في البال دائماً
هو نيسان الذي بات، بالنسبة الى كثيرين، ملتصقاً بالهوية الأرمنية الأبية، وبحكايات الموت والشهادة والدماء النازفة، وبعجرفة عثمانية فاقعة وبنوايا حاقدة وجرائم إنسانية فظيعة. هو نيسان الذي يحيي مطره الإنسان. وعندما يتساقط المطر تُزال الأصباغ عن الوجوه وتفوح رائحة التراب وتشتد النوستالجيا وتتجدد الوعود. الأرمن، في ذكرى الإبادة السابعة بعد المئة، لم ولن ينسوا أرمنيتهم ويؤكدون من جديد، بالقلب والروح وبدينامية شعب عرف كيف يحافظ على قضيته وهويته ووجدانه، أن قوّة هذا الشعب في أنه لا يعرف الإستسلام. جورج دورليان، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة البلمند سابقاً والناقد الأدبي، والأرمني الذي يعرف العربية أكثر من عربٍ كثيرين، يعرف حجم الوجع الأرمني اليوم على لبنان كما على أرمينيا. فماذا عن الوجعين في جعبة رجل درس الفلسفة وعلّمها وتأكد أنها ليست إحترافاً أو تخصصاً بل هي إنشغال ومعاناة؟

قوّة الأرمن في أنهم يخبرون قلوبهم بأحلام الطفولة كلما شعروا أنهم يضيعون في دوامة الحياة لأن فيها صورتهم الحقيقية. والصورة تتطور، تندمج في تفاصيل جديدة، لكن الحنين يستمر قوياً الى الجذور. الدكتور جورج دورليان اللبناني الأرمني له فلسفته وتجربته في الموضوع. فكيف يعيش ذكرى الإبادة؟ ماذا يتذكر مما أخبروه إياه عنها؟ ماذا يتذكر من الهجرات الأرمنية في الشتات؟ وهل اللبنانيون الأرمن يتعرضون الى هجرة جديدة اليوم؟

اليوم، يكون الدكتور دورليان قد أصبح في ألمانيا، بعد أن يمرّ في باريس، وسيمضي أشهراً هناك. لكنه سيعود الى لبنانه. فلبنان بلده الآخر الذي اندمج فيه فأصبح لبنانياً أكثر من لبنانيين كثيرين. نسأله عن الإبادة فيجيب: "24 نيسان هي ذكرى المجزرة أما بداياتها فقبل ذلك. أهله من منطقة في شرق تركيا اسمها ديار بكر، كان نصفها مسيحيين والنصف الآخر مسلمون، وغالبية المسلمين أكراد وأتراك أما غالبية المسيحيين فأرمن وسريان وكلدان وأرثوذكس. وكل المسيحيين كانوا، ثقافياً، من الأرمن يذهبون الى مدارس أرمنية ويتكلمون الأرمنية. جدتي لأمي كانت كلدانية وجدة والدي كانت سريانية قريبة مطران السريان الكاثوليك. وكان أهلي يتكلمون لغة أرمنية خاصة، ليست كالتي نسمعها الآن. ووالدي يوم هُجر اضطهاداً كان بعمر 15 عاماً. نزل في حلب ومنها انتقل الى لبنان. وجدي، من جهة والدي، أخذوه في العام 1914 في سفربرلك فغادر ولم يعد. وأخبرني والدي لاحقاً أنهم كانوا يقسمون الجيش بين مسيحيين ومسلمين ويقتلون المسيحيين. كان جدي من الأرمن الأرثوذكس واسمه بطرس لكنهم كانوا يعرفونه باسم بتراك. وعرفوا لاحقا أنه قُتل".



المقاومة السلميّة



ضد الغيتو


لا يعرف الدكتور دورليان التكلم باللغة الأرمنية اليوم، فأهله سكنوا في الخندق الغميق ووضعوه في مدرسة قريبة في الصنائع- الوتوات. في المنطقة كانت مدرسة أرمنية كبيرة للراهبات، وكان في الخندق الغميق أيضا، مستشفى قلب يسوع. أراد أهلي منذ البداية دمجنا في المجتمع الجديد لأنهم كانوا ضد عقلية الغيتو. التخالط أمر غاية في الأهمية. لذا اهتموا بتلقيننا العربية وتعلمت الخط العربي من والدي. هذه أجواؤنا مثل أرمن كثيرين أرادوا الإندماج في المجتمع الجديد".

الإختلاط ليس معناه إلغاء الهوية الأصلية ولا يلغي الجروح والندوب. واستمرت "اليان" في اسم عائلتي تعرّف بالهوية الاصلية: أرمني. وكنت أقول الى رفاقي اللبنانيين: أنا أعرف العربية أكثر منكم. وها نحن اليوم، نتعرض الى هجرة جديدة. ثمة 250 ألف أرمني في لبنان يتعرضون الى هجرة جديدة. فأنا أب لولدين، شاب وشابة، الفتاة في ألمانيا والشاب أستاذ إسلاميات في جامعة السوربون في فرنسا. لم أربّهم، كما لم أتربى، على الشعور القومي والقوقعة بل على الإنتماء الى الشعب والإنفتاح على العالم. مسألة القبائل الطائفية تزعجنا".




مسألة الإندماج

الشعب الأرمني، أولاد اليان، إندمجوا في المجتمعات الجديدة والإندماج ليس معناه محو الهوية الأصلية. وهؤلاء، كثير من هؤلاء من الجيل الجديد، لا يعرفون اليوم اللغة الأرمنية بل يتكلمون العربية بطلاقة كي يتمكنوا من التأقلم أكثر في المحيط الجديد الذي أصبحوا فيه. ويتذكر دورليان: "إلتقيتُ في بيروت، منذ عشرة أعوام، أستاذة اردنية من أصل أرمني لا تعرف الأرمنية وتقوم بأبحاث عن الشعراء اليمنيين. قالت لي: ينتظرون أي غلطة عربية حين أتكلم ليقولوا لي أنت أرمنية، بينما هم يُخطئون على الطالع وعلى النازل. ثمة نظرة نافرة إلينا من البعض وكأن هؤلاء لا يريدون للأرمني الإندماج".

ويقول دورليان: "قرأت كثيراً عن أرمن يرفعون الرأس" ويستطرد بالقول "الدور الأرمني في لبنان سابقاً إنتهى، فهم نقلوا الى الآخرين ما اشتهروا به، من صناعة الذهب وسواها، وإحساسي أنه في حال لم يتم ضبط الوضع في لبنان فإن الأمور ذاهبة الى المزيد من الشرذمة الطائفية المذهبية. ولا اتصور أن الأرمن سيكون لهم دور فيه. ومن تسمح ظروفهم بالمغادرة فسيغادرون".

هل هذا معناه أن لا رابط للأرمن في لبنان يجعلهم يصمدون؟ يجيب "وحدها الدولة العلمانية ستجعل الأرمن قادرين على التكيف. فالنظام الطائفي وظيفته تقسيم الناس طوائفياً. واللبنانيون الأرمن، منفتحون، لن يشعروا بأنفسهم في هكذا نظام، مسيحياً كان او إسلاميا فأصبح شيعة على سنة على أرثوذكس على موارنة. ليس الأرمن وحدهم من لا يشعرون بوجودهم في هكذا نظام بل كل اللبنانيين".

الارمن ليسوا طارئين بل أصبحوا، بمرور الزمن، من صلب لبنان، وأعطوا البلد خصوصية مهمة ونواباً مهمين أمثال خاتشيك بابكيان، أستاذ القضاة والمحامين، وهناك فنانون عظماء أمثال بول غيراغوسيان ممن طبعوا الفن التشكيلي اللبناني بنتاجهم. أعطى الأرمن الكثير الى لبنان يوم انتقلوا إليه في ستينات القرن الماضي. ووجدوا أنفسهم فيه كونه يشبههم. والخليط أحبوه. ويتذكر: يوم عشنا في الخندق الغميق كانت فيه كاتدرائية السريان ومنزل أنسي الحاج وجيروم محاسب. ويوم حصلت الهجرة الثانية قالوا لنا إنزلوا الى برج حمود لكن والدتي رفضت ذلك وقالت لن أعيش إلا في مكان مختلط".

أراد الأرمن الإختلاط من دون التخلي عن تأثيرهم وشخصيتهم الأرمنية وتاريخهم وثقافتهم وهذا حقهم. وسؤالنا الى الدكتور دورليان: كيف تعيش اليوم أرمنيتك؟ يجيب "أعيش أرمنيتي في شكل عادي، طبيعي، وأتمنى أن أرى لبنان بلداً علمانياً، كما أن دورليان هو إسمي الذي لم أغيره، مع العلم أن هناك من تخلوا عن "اليان". تمسكتُ باسمي وبالكتابة بالعربية في آن. أعشق هذه اللغة. وآخر كتاب لي كان "البحث عن المعنى". كتبتُ دائماً بالعربية والفرنسية لا بالأرمنية".

جورج دورليان هو مثال جميل عن اللبنانيين الأرمن. دخل الى الجامعة في منتصف ستينات القرن الماضي، حين كانت الأفكار اليسارية والثوروية عارمة، وكانت هناك جامعة لبنانية واحدة. ويستطرد بالقول: ذكريات الإبادة في البال يومياً لا في 24 نيسان فقط، والشعب الأرمني عرف بعد الإبادة كيف يحارب ليس بالسلاح بل بتثبيت الحضور الأدبي الثقافي الفكري. آمن الأرمن دائما أن أموراً كثيرة لا تتحقق بالسلاح، وهذا ما يزعج الحكومات التركية. فكثير من الكتب سرد عن الإبادة وكتّاب أتراك شاركوا في صياغتها ووقف مثقفون وروائيون أتراك ضدّ الدولة التركية. نجح الأرمن في جعل الكثيرين يعترفون بالإبادة وهذا انتصار للقضية. أعطى الشعب الأرمني نموذجاً آخر للمعارضة فكرياً أدبياً وثقافياً، وبرهن عن قدرته بتأكيد حقوقه".



شعب لا يعرف الإستسلام


الإعـــــتـــــراف بـــــالإبـــــادة

نجح الأرمن في جعل الولايات المتحدة الأميركية تعترف بالإبادة. ويتذكر دورليان "أن الأرمن كانوا يعتمدون سابقاً الخطابات للتذكير بالإبادة والتهجير أما الآن فقد نجحوا في إنشاء لوبي أميركي وفرنسي من مثقفين وسياسيين نجحوا في دفع الدول الى فرض الإعتراف بالإبادة. ويستطرد: منطقتنا ديار بكر أصبحت كلها أكراد وهؤلاء أنفسهم، يوم الإنتخابات البلدية التي أجروها، قالوا إنهم أخطأوا تجاه الأرمن لأن الحكومات العثمانية والتركية فرضت عليهم خوض معركة دينية ضدّ الأرمن. وأتذكر هنا ما أخبرني به والدي عن أنهم كانوا ينادونه "كاوور"، أي الكافر. اليوم تبدلت الأمور كثيراً، وهم يعيدون بناء الكنائس والأحياء الأرمنية ليقينهم أن الارمن في تركيا هم جزء من ذاكرة المدينة. نجحنا إذا في شكل المقاومة التي اعتمدناها يقيناً منا أن الأمر بحاجة الى وعي يتحقق مع الوقت. وجد الأرمن طريق المقاومة الحقة واشتغلوا على تعزيز اللوبي الأرمني في الخارج".

يومان وتحلّ ذكرى الإبادة الأرمنية. تلك الذاكرة التي صمدت لأنها تعكس جزءاً من عذاب الإنسانية. ويقول دورليان: "النضال اليوم يأخذ منحى ديبلوماسياً واللبنانيون الأرمن القضية اللبنانية في داخلهم بقدر القضية الأرمنية".

هل يمكننا أن نجزم الآن بانتصار الشعب الأرمني؟ يجيب "أكيد إنتصروا لأنهم نجحوا في تثبيت وجودهم للعالم كله، فالشعب الأرمني خلّاق على كل المستويات وهو الذي أعطى للعالم أهم المخرجين والروائيين والفنانين أمثال شارل أزنافور. ميشال لوجان والدتها أرمنية أيضا. إنتصر الأرمن لأنهم حملوا على ظهورهم، في هجرتهم، مهنهم وبينها الرسم والخياطة والتصوير والتجارة والصناعة. نجحوا في ألّا يحتاجوا أحداً. وهم لو كانوا فلاحين لكانوا شحّاذين. نجح الأرمن لأن الظروف ساعدتهم وهم شعب يأبى الإنكسار".


MISS 3