كريستينالو

حرب بوتين تُهدّد الرقائق الدقيقة وطب الأسنان والبيرة

29 نيسان 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

موظف في مصنع هيتاشيناكا اليابانيّة متخصص بتصنيع المعالجات الدقيقة

ثمة أزمة في توريد أشباه الموصلات، وبدأت كلفة حشوات الأسنان ترتفع بدرجة قياسية في اليابان، وزادت أسعار الكنبات في بريطانيا، وتجد مصانع البيرة الأميركية صعوبة في تأمين ما يكفي من عبوات الألومنيوم لتعبئة منتجاتها. يمكن نَسْب هذه المشاكل الاقتصادية كلها إلى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا.

أحدثت الحرب في أوكرانيا صدمات قوية في أسواق السلع العالمية، فقد توقف جزء كبير من أهم الصادرات الأوكرانية بسبب حرب بوتين، وبدأت موجات جديدة من العقوبات الدولية تعزل الصناعات الروسية عن الأسواق العالمية. يُخصص صانعو السياسة الغربية معظم وقتهم اليوم لمحاربة ارتفاع أسعار الطاقة وابتكار الحلول لوقف الاتكال على إمدادات النفط والغاز الروسية، ولا ننسى أهمية إطعام ملايين الناس بعدما كانوا يتكلون على الحبوب الروسية والأوكرانية.



لكن تحاول قطاعات أخرى الصمود في وجه الصدمات التي سبّبتها الحرب. يمكن اعتبار روسيا، وبدرجة أقل أوكرانيا، بمثابة متاجر عالمية كبرى، ما يعني أن دورهما محوري في إنتاج أو تصنيع أو تصدير سلع أساسية مثل النيون، والبالاديوم، والنيكل، والخشب، ونترات الأمونيوم، والألومنيوم. إلى جانب ارتفاع أسعار الوقود وتصاعد الضغوط الاقتصادية بسبب التضخم، بدأت تداعيات غزو بوتين تتسلل إلى مجالات جديدة وآمنة من سلاسل الإمدادات العالمية، ما يثبت أن العواقب الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا لن تقف عند هذا الحد.

يُعتبر النيون خير مثال على ذلك. هذا الغاز النبيل ضروري لتصنيع رقائق أشباه الموصلات التي تُشغّل جميع أنواع الأجهزة والمعدات، بدءاً من الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة وصولاً إلى السيارات. يشتق هذا المنتج الثانوي من تصنيع الفولاذ الروسي الذي يصل إلى أوكرانيا لتنقيته ثم يُشحَن إلى منتجي أشباه الموصلات في الخارج. هكذا كان الوضع في زمن السلم.

يقول بيتر هانبيري، خبير في أشباه الموصلات في شركة Bain & Company: "النيون عنصر مهم في قطاع أشباه الموصلات لأنه يُستعمَل في أدوات الطباعة الحجرية. إنه أهم جزء من عملية تصنيع أشباه الموصلات".

تنتج شركتان أوكرانيتان فقط نصف كمية النيون المُستعمَل لتصنيع أشباه الموصلات في العالم، لكنهما اضطرتا لوقف عملياتهما خلال الغزو الروسي. تقع إحداهما في مدينة "ماريوبول" التي تحاصرها القوات الروسية في الوقت الراهن، وتقع الشركة الثانية في مدينة "أوديسا" المرفئية، وهي واردة على قائمة المدن التي تستهدفها روسيا.

نتيجةً لذلك، يجد عدد من أهم موردي أشباه الموصلات في العالم صعوبة في تأمين مصادر بديلة للغاز، علماً أنهم كانوا يواجهون أزمة في الإمدادات أصلاً بسبب جائحة كورونا. قررت كوريا الجنوبية، وهي واحدة من أهم مصنّعي الرقائق، إزالة الرسوم الجمركية عن النيون فوراً. أما شركة ASML Holding (من أهم موردي الرقائق)، فقد سارعت إلى تأمين إمدادات جديدة من النيون.

قال وزير المال الكوري الجنوبي، هونغ نام كي، في الشهر الماضي: "إذا طال هذا الوضع، نخشى أن تتفاقم التداعيات المرتقبة على الاقتصاد كله".

ليست المرة الأولى التي تُزَعزِع فيها التحركات العسكرية الروسية قطاع أشباه الموصلات. في العام 2014، حلّقت أسعار النيون بنسبة 600%، وفق لجنة الولايات المتحدة للتجارة الدولية، بسبب المخاوف المحيطة بالغزو الروسي لشبه جزيرة القرم. هذا الوضع أخاف كبار مصنّعي أشباه الموصلات، فراحوا يخزّنون كميات احتياطية إضافية تحسباً لأي أزمة جديدة في الإمدادات، وهم يملكون اليوم ما يكفي من النيون لتجاوز العاصفة الاقتصادية المستجدة على المدى القصير.

يضيف هانبيري: "الخطوات التي اتخذها المعنيون رداً على تلك الأزمة هي التي حضّرت القطاع للتعامل مع المحنة الراهنة".

يقول متحدث باسم شركة التكنولوجيا Micron في "آيداهو" (من أكبر منتجي الرقائق في الولايات المتحدة) إن الشركة تملك إمدادات تكفيها للأشهر القليلة المقبلة: "في الوقت الراهن، لا نتوقع أن يتأثر حجم الإنتاج سلباً على المدى القريب، لكنّ الوضع قابل للتبدّل. نحن نملك إمدادات كافية للأشهر القليلة المقبلة وبدأنا نتخذ الخطوات اللازمة لتأمين إمدادات تكفينا لفترة أطول".

لكن سبّب تراجع إنتاج النيون في أوكرانيا أضراراً إضافية في الشركات الأصغر حجماً لأنها لم تكن تملك هذه الاحتياطيات، ما يعني أنها أكثر عرضة لتقلبات الأسعار والإمدادات. إذا طالت مدة الحرب وفرغت مخازن النيون لدى الباعة، يتوقع الخبراء أن يتأثر قطاع تصنيع أشباه الموصلات كله بهذه الاضطرابات. وإذا أنهى الباعة مخزونهم ووجدوا صعوبة في تأمين إمدادات بديلة من النيون، يظن غوراف غوبتا، محلل متخصص بأشباه الموصلات في شركة الأبحاث التكنولوجيـــة Gartner، أن إنتـــاج الرقائق قد يتوقف بدرجات متفاوتة. قد يكون هذا الوضع من أسوأ السيناريوات المتوقعة.

لكن لا تقتصر المشكلة على إنتاج النيون. أدت المخاوف المتزايدة من اضطراب الأسواق إلى رفع سعر البالاديوم (معدن مشابه للبلاتين)، فبلغ أعلى مستوياته منذ سبعة أشهر في شهر آذار الماضي. تأثّر قطاع السيارات بهذا الارتفاع أكثر من غيره، فهو يستعمل البالاديوم في المحولات الحفازة. في اليابان، أثّر ارتفاع التكاليف بهذه الدرجة القياسية على أطباء الأسنان: بدأ سعر حشوات الأسنان التي تحتوي على البالاديوم يرتفع، ما دفع هيئة حكومية إلى الموافقة على رفع أسعار هذه العمليات التي تغطيها خطط التأمين الصحي الوطنية. أنتجت روسيا أكثر من ثلث واردات البالاديوم في العام 2021، وتنتج المناجم الروسية حوالى 40% من البالاديوم على مستوى العالم.

في الوقت نفسه ارتفع سعر النيكل بسبب الحرب، وهو معدن آخر يُستعمَل في إنتاج الفولاذ المقاوم للصدأ والبطاريات. روسيا هي رابع أكبر مُنتِجة للنيكل في العالم، لا سيما عن طريق شركة التعدين العملاقة Nornickel. في شهر آذار، زاد سعر النيكل بنسبة 110% بسبب المخاوف من نقص الإمدادات، ما دفع بورصة لندن للمعادن إلى وقف التداول.

مع ذلك، يظن بعض المحللين أن توريد النيكل لن يتراجع على الأرجح بقدر سلع أخرى أصبحت في مرمى نيران الحرب والعقوبات المترتبة عنها، رغم تقلّب الأسعار بسبب توتر التجار. يقول أندرو ميتشيل، مدير قسم أبحاث النيكل في مجموعة Wood Mackenzie: "هكذا هو الوضع حتى الآن على حد علمنا. لم يتأثر مستوى استعمال المواد التي تنتجها شركة Nornickel حول العالم أو ربما تأثّر بدرجة ضئيلة".

على صعيد آخر، بدأت مصانع البيرة الأميركية تواجه أزمة اقتصادية لأن روسيا وأوكرانيا هما من أهم موردي الشعير في العالم (الشعير من أبرز المقادير في البيرة). تُعتبر روسيا أيضاً من كبار منتجي الألومنيوم، لذا تجد مصانع البيرة صعوبة في تأمين كميات ثابتة ومقبولة الكلفة من عبوات الألومنيوم لتعبئة البيرة بسبب اضطراب الإمدادات بعد الحرب والصدمات التي تلت الوباء العالمي.

في سوق الخشب، بدأت الأسعار تضطرب قبل تراجع الإمدادات لأن تجار السلع المتوترين ورؤساء الشركات الغربية يحاولون التخلي عن الموردين الروس استباقاً لزيادة العقوبات على موسكو. يحذر موردو الأثاث البريطانيون العملاء من زيادة كلفة كنباتهم ومفروشات أخرى لأن الحرب بدأت ترفع أسعار الخشب المنشور. بحلول شهر نيسان، زادت أسعار الخشب المنشور الأوروبي بنسبة 35% مقارنةً بأسعار ما قبل الحرب، ويتعلق السبب جزئياً بالأسواق المتقلبة التي تتوقع تراجع الإمدادات قبل حصوله. (في الولايات المتحدة، انخفض سعر الخشب المقطّع والمُعالَج تزامناً مع انحسار اضطرابات سوق العقارات وارتفاع معدلات الرهن العقاري).

تشارك روسيا في ربع تجارة الأخشاب اللينة العالمية تقريباً، لكن يصل أكثر من نصف صادراتها إلى الصين التي حافظت على علاقاتها التجارية مع روسيا على مر الحرب، وفق مصادر شركة تحليل الأسواق Fastmarkets RISI.

لكنّ هذه التقلبات في الأسعار بدأت تُجبِر الدول على إعادة تقييم عمليات التصدير والاستيراد، فهي جزء من نزعة قد تُزعزِع أسواق الأخشاب العالمية.

يقول داستن جالبيرت، خبير اقتصادي متخصص بقطاع الخشب المنشور في شركة Fastmarkets RISI: "في الحد الأدنى، نحن نتجه إلى إعادة تنظيم شاملة للتجارة العالمية. ستكون إعادة تنظيم الإمدادات بهذا الشكل فوضوية جداً، حتى لو لم تؤثر على حجم الإنتاج الفعلي بكل وضوح، لأن المشترين العالميين يحاولون فصل أنفسهم عن الإمدادات الروسية".

تزامناً مع تقدّم القوات الروسية نحو إقليم "دونباس" الأوكراني، يحذر خبراء الاقتصاد ووكالات الإغاثة والمنظمات الدولية الكبرى من تفاقم الوضع قبل أن يتحسن مجدداً.

في هذا السياق قال أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، خلال مؤتمر صحافي: "بدأت الحرب تطلق أزمة ثلاثية الأبعاد، على مستوى المواد الغذائية والطاقة والتمويل، وهي تستهدف أضعف الناس والدول والاقتصادات في العالم. سيكون أثر الحرب عالمياً ومنهجياً".


MISS 3