تصميم أكبر "شجرة عائلة" بشرية على الإطلاق

02 : 00

في حزيران 2000، تصافحت مجموعتان متنافستان من الباحثين بعد تحقيقهما نجاحاً مشتركاً ومبهراً في مجال علم الأحياء: طرح الفريقان مسودة أولية للجينوم البشري.

التجربة التي بدأت مع خريطة غير مكتملة للكروموسومات البشرية تحولت منذ ذلك الحين إلى مخزون شاسع من التسلسلات الفردية من جميع زوايا العالم، وهي تعود في حالات كثيرة إلى عصور قديمة جداً.

في مكانٍ ما من عالم الحمض النووي المستكشف تكمن قصة بشريتنا المشتركة. لكنّ قراءة تلك القصة أصعب مما يتوقع الكثيرون للأسف. لا تطرح كمية البيانات الهائلة مشكلة كبرى فحسب، بل تشكّل الاختلافات السلسة في العينات والصِيَغ المتنوعة وتقنيات التحليل التي تعطي الأولوية لأنواع مختلفة من الأخطاء عوائق أمام طرح تفسير موحّد.

في الفترة الأخيرة، أطلق باحثون من "معهد البيانات الضخمة" في جامعة "أكسفورد" في بريطانيا بداية واعدة عبر جمع أكثر من 3600 تسلسل فردي من 215 شعباً في إطار شجرة ضخمة واحدة.

تشمل أغصان الشجرة 231 مليون سلالة مرتبطة بأسلافنا. تحمل قاعدتها عدداً من الجذور التي تمثّلها ثمانية تسلسلات قديمة ومفصّلة للجينوم البشري، إلى جانب آلاف البقايا الأصغر حجماً والمستعملة للتأكيد على مكانها في عمق ماضينا، منها ثلاثة جينومات من إنسان نياندرتال، وجينوم واحد من إنسان دينيسوفان، وعائلة صغيرة كانت تعيش في سيبيريا منذ أكثر من أربعة آلاف سنة.

يقول خبير علم الوراثة، أنتوني وايلدر وونز، الذي أشرف على الدراسة تزامناً مع إنهاء أطروحة الدكتوراه في "معهد البيانات الضخمة": "نحن نعيد بناء الجينومات انطلاقاً من أسلافنا ونستعملها لتشكيل سلسلة من الأشجار التطورية المترابطة التي نسمّيها "تسلسل الشجرة". يمكننا أن نقدّر في المرحلة اللاحقة الزمن الذي عاش فيه أسلافنا ومكان إقامتهم".

تستعمل مقاربة "تسلسل الشجرة" بنية موجزة للبيانات: إنه مفهوم محوسب يهدف إلى تمثيل البيانات في مساحة فضائية مثالية، وهو يحدّ أيضاً المدة الزمنية اللازمة لاستكشاف هذا المجال عبر طرح الأسئلة المناسبة.

يمكن تطبيق نمط التفكير نفسه عند حفظ الملفات على حاسوبنا، ما يعني التوفيق بين ضغط الوثائق وحصرها في إطار قوائم طويلة من المجلدات أو حفظ جميع المواد على سطح المكتب بكل بساطة.

في هذه الحالة المحددة، يرصد "تسلسل" الشجرة روابط بين مختلف الأغصان لتسهيل دراسة كميات كبيرة من المعلومات.

من خلال تحويل البيانات إلى رسوم بيانية مع عُقَد تمثّل سلالات متنوعة ورسم خرائط الطفرات على طول الأطراف، يمكن دسّ قواعد البيانات الجينية الواسعة في مساحة صغيرة نسبياً وتسهيل الوصول إليها عبر أنظمة حلول حسابية مُصمّمة للبحث عن إحصائيات مثيرة للاهتمام.

يوضح وونز: "تكمن قوة مقاربتنا في طرحها فرضيات قليلة جداً حول البيانات الكامنة واحتوائها عينات حديثة وقديمة من الحمض النووي".

من خلال إضافة ملصقات مناسبة إلى المواقع الجغرافية الخاصة بالتسلسلات، تمكن الباحثون من تخمين مكان إقامة عدد من أسلافنا القدامى وطريقة تنقلهم.

هذا الجانب يكشف لنا أحداثاً نشتبه بها أصلاً، منها طريقة هجرة الشعوب البشرية من أفريقيا، حتى أنه يلمح إلى التغيرات الحاصلة في الكثافة السكانية داخل مجموعات الأسلاف القدامى التي نتابع استكشافها مثل إنسان دينيسوفان.

نظراً إلى فاعلية هذه العملية، تشمل الشجرة المبهرة أصلاً مساحة كبرى ومُعدّة للتطور تزامناً مع توفير بيانات جينية إضافية مستقبلاً.

يمكن زيادة دقة أي نتائج أخرى عبر إضافة ملايين الجينومات، ما يعني تحديد موقع أي تسلسل جديد في السلالة التي تشمل جميع أنحاء العالم.

يقول خبير علم الوراثة التطوري في "معهد البيانات الضخمة"، يان وونغ: "تسمح لنا هذه السلالة بتحديد الرابط بين التسلسل الجيني لدى كل فرد والتسلسلات الأخرى، فضلاً عن رصد جميع نقاط الجينوم".

على نطاق أوسع، ما من سبب يمنع تطبيق المقاربة نفسها مع أجناس أخرى، حتى أنها قد تسمح يوماً بابتكار نسيج عالمي للحياة على كوكب الأرض.

في النهاية، يستنتج وونز: "قد يكون البشر محور هذه الدراسة، لكن يمكن تطبيق المنهجية نفسها على معظم الكائنات الحية، بدءاً من إنسان الغاب وصولاً إلى الجراثيم. هذه المقاربة قد تفيد علم الوراثة الطبية تحديداً، فتسمح بفصل الروابط الحقيقية بين المناطق الجينية والأمراض عن الروابط المزيفة التي تشتق من تاريخ أسلافنا المشترك". نُشرت نتائج البحث في مجلة "العلوم".