براين تايلور

صراع السلطة بعد بوتين

12 أيار 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن خطاباً في أواخر شهر آذار، لكنه انحرف عن النص المكتوب وعبّر بأعلى الصوت عن رأي يتداوله الكثيرون في أوساطهم الخاصة بشأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقال: "حباً بالله، هذا الرجل لا يمكن أن يبقى في السلطة". بعد هذا التصريح، سارع أعوانه في البيت الأبيض إلى التراجع عن ذلك التعليق الارتجالي، فشددوا على عدم اهتمام واشنطن بتغيير النظام في روسيا. لكن ساهم موقف بايدن، سواء كان مقصوداً أو عفوياً، في إقناع البعض في واشنطن بأن أبسط طريقة لإنهاء حرب بوتين العدائية في أوكرانيا تقضي بوضع حدّ لسطوته على السلطة. في شهر آذار أيضاً، كتب ليندسي غراهام، السيناتور الجمهوري عن ولاية كارولاينا الجنوبية، التغريدة التالية: "لإنهاء كل ما يحصل، تقضي الطريقة الوحيدة بأن يتولى أحد في روسيا إزاحة هذا الرجل من السلطة". لا شيء يشير إلى تعرّض بوتين لخطر الاغتيال قريباً، ولا يلوح أي انقلاب أو ثورة شعبية في الأفق. لكن يبلغ بوتين 69 عاماً ولم تعد صحته جيدة على الأرجح. زعم صحافيون استقصائيون روس أنه قد يكون مصاباً بسرطان الغدة الدرقية. سواء توفي بوتين أثناء توليه منصبه أو بعد إسقاطه أو إذا سلّم السلطة طوعاً، لا مفر من أن ينتهي عهده بطريقة أو بأخرى.

إنتهاء عهد بوتين لن يُجدد الاستقرار في روسيا، بل إنه سيترافق مع مرحلة مضطربة وخطيرة على الأرجح. في آخر عشرين سنة، تمسّك بوتين بالسلطة عبر إضعاف القوانين والمؤسسات الرسمية في بلده، فألغى الضمانات التي تسمح بنقل السلطة بطريقة منظّمة. نتيجةً لذلك، تبدو السيناريوات المحتملة حول ما يمكن أن يحصل إذا مات الرئيس أو ترك السلطة، واسعة ومتعددة أكثر من الأحداث المتوقعة بعد رحيل أي زعيم أميركي أو حتى صيني. يذكر الدستور الروسي عملية محددة لانتخاب رئيس جديد، لكن لن يتحدد رئيس روسيا المقبل على الأرجح إلا عبر صراع بين النُخَب وراء الكواليس. بعد بناء نظام استبدادي مبني على شخص بوتين، يستحيل أن يتوقع أحد ما سيحصل بعد رحيله الحتمي.

على مستوى التحدي؟

من المتوقع أن يتفوق رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين، على غيره خلال أي عملية شائكة لخلافة بوتين، لكنه ليس المرشّح الوحيد. لا تتكل روسيا على أي سلسلة رسمية لاختيار الرؤساء المتعاقبين، باستثناء رئيس الوزراء، وهي ثغرة قانونية هائلة. لكن قد يحاول كل من يريد كسب ما يكفي من الحلفاء للوصول إلى الرئاسة تحقيق هدفه انطلاقاً من مجلس الأمن الروسي الذي يشمل كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين.

لا يُعتبر أيٌّ من المرشحين المحتملين للرئاسة جزءاً من ترتيب الخلافة الرسمي، بما في ذلك وزير الدفاع سيرغي شويغو، والرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي الحالي ديمتري مدفيديف، ورئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين، وعمدة موسكو سيرغي سوبيانين. لكن نظراً إلى انقسام النخبة الروسية وتراجع مستوى الدعم الشعبي لهذه الشخصيات، يصعب أن يتفوق أحد على ميشوستين ليصبح المرشّح التوافقي الأبرز. قد يستنتج الجميع على الأرجح أن محاولة بلوغ السلطة تحمل مخاطر مفرطة، وبالتالي من الأفضل أن يحافظوا على سلامتهم لمتابعة النضال في المراحل اللاحقة.

مع ذلك، قد ينافس أحدهم ميشوستين خلال فترة الأسبوعين التي يتّضح فيها مرشّح الكرملين، أو خلال الانتخابات الخاصة اللاحقة حيث يطرح الفرد نفسه كمرشّح مستقل. إذا تحقق هذا السيناريو، قد يتفوق ميشوستين نتيجة سيطرته على أدوات السلطة الرئاسية، بما في ذلك التلفزيون الرسمي ولجنة الانتخابات المركزية. لكن إذا كان شخص آخر من أوساط بوتين يتمتع بمكانة وطنية مرموقة وقرر التنافس على السلطة علناً، قد يشهد العالم أحداثاً غير مسبوقة منذ العام 1996، حين جرت انتخابات رئاسية روسية لم تكن نتائجها معروفة مسبقاً.

يبرز أيضاً احتمال التنافس على الرئاسة خارج إطار الدستور. نظرياً، تملك وكالات روسية متعددة صلاحية تنفيذ انقلاب: لا تقتصر هذه الصلاحية على الجيش بل تمتد إلى خدمة الحرس الفدرالي، والحرس الوطني، وجهاز الأمن الفدرالي. لكن يصعب أن يجمع أحد هذه القوى كلها تحت راية واحدة، لا سيما في زمن الحرب. تاريخياً، بذل القادة الروس قصارى جهدهم لتجنب الظروف التي تُبرر استغلال هذه القوى لزيادة الصدام في ما بينها. الأهم من ذلك هو رضوخ القادة العسكريين الروس للنُخَب المدنية دوماً. مرّ قرنان من الزمن منذ أن حاول الجيش الاستيلاء على السلطة بعد وفاة حاكم البلد، ويبدو تكرار ثورة الديسمبريين التي انهارت سريعاً في العام 1825 مستبعداً جداً في روسيا المعاصرة.

قد يقلّص سيناريو أخير حجم الشكوك السائدة، وهو يفرض على بوتين أن يُخطط لرحيله (لأسباب صحية مثلاً)، فيُعيّن خَلَفه بنفسه. إذا قرر بوتين تعيين بديل من اختياره في سدة الرئاسة قبل التنحي من منصبه، قد يتمكن من توحيد جماعات النخبة المتنافسة وتحسين فرص إطلاق مرحلة انتقالية منظّمة. ستكون هذه العملية مشابهة لطريقة وصوله إلى الرئاسة. إذا فضّل بوتين هذا المسار، لا شيء يمنعه من اختيار ميشوستين الذي اعتُبِر تكنوقراطياً عند تعيينه كرئيس وزراء.

نقطة ضعف الأنظمة الاستبدادية

تصمد معظم الأنظمة الاستبدادية لفترات طويلة على نحو مفاجئ. رغم وفاة القادة المستبدين أثناء وجودهم في السلطة، غالباً ما تستمر أنظمتهم طوال سنوات أو حتى عقود. استنتجت عالمتا السياسة أندريا كندل تايلور وإيريكا فرانتز، اللتان حللتا جميع عمليات الخلافة في الدول الاستبدادية بين العامين 1946 و2012، أن 87% من الأنظمة الاستبدادية بقيت على حالها بعد سنة على موت الحاكم، ولم يتغير 76% منها بعد مرور خمس سنوات.

لكن لا تكون جميع أشكال الاستبداد قابلة للاستمرار بالقدر نفسه. لاحظت فرانتز وكندل تايلور أن الأنظمة أحادية الأحزاب والمجالس العسكرية والدول الاستبدادية المبنية على شخص الحاكم، على غرار النظام الذي بناه بوتين، تكون الأكثر عرضة للتغيير مقارنةً بالأنظمة الملكية. بقي 78% منها على حاله بعد سنة على وفاة حاكم البلد، وتراجعت هذه النسبة إلى 44% فقط بعد مرور خمس سنوات. في حالات كثيرة، كما في سوريا خلال عهد حافظ الأسد وكوريا الشمالية في عهد كيم إيل سونغ، انتقلت السلطة مباشرةً إلى أحد أفراد العائلة، ما سهّل صمود النظام. لكن في روسيا، لا تستعد ابنتا بوتين لاستلام الحُكم ولا تجرؤ وسائل الإعلام على التكلم عنهما أصلاً.

يتعلق سبب آخر لصمود النظام بميل الموالين له إلى توحيد صفوفهم بعد وفاة الحاكم لإزاحة جميع المنافسين المحتملين والاحتفاظ بقوتهم وامتيازاتهم. من المتوقع أن يتشجع أشخاص من أوساط بوتين الداخلية على هذه الخطوة بعد رحيله. لكن إذا لم يتفقوا على خَلَف واضح، قد يقعون في نهاية المطاف في فخ الانقسام والفئوية. طغى هذا النوع من الاقتتال الداخلي على حقبات سابقة من التاريخ الروسي. بعد وفاة فلاديمير لينين في العام 1924، احتاج جوزيف ستالين إلى سنوات لترسيخ مكانته كأقوى زعيم بلا منازع. وبدأ صراع مماثل على السلطة بعد موت ستالين في العام 1953، فاضطر نيكيتا خروتشوف حينها لمطالبة عناصر الجيش باعتقال خصمه، لافرنتي بيريا، الذي سيطر على الشرطة السرية والأجهزة الأمنية التابعة للكرملين.

أحياناً، يقال إن نقل السلطة هو نقطة ضعف الأنظمة الاستبدادية، لا سيما تلك المبنية على شخص الحاكم. وبحسب أبحاث كندل تايلور وفرانتز، يتغير 56% من هذه الأنظمة خلال خمس سنوات بعد وفاة رئيس البلد. حتى لو صمد نظام بوتين في نهاية المطاف إذاً، قد تواجه روسيا مرحلة انتقالية فوضوية أو حتى عنيفة.

يشمل التاريخ الروسي الحديث مؤشرات حول ما يمكن أن يحصل إذا انحرف الوضع عن مساره الطبيعي. في العام 1993، أدى الصراع على السلطة بين بوريس يلتسن وبقايا البرلمان السوفياتي إلى نشوء شكلٍ من "ازدواجية السلطة" طوال أسبوعَين في روسيا، ثم انتهت هذه المرحلة بوصول الدبابات لإطلاق النار على البرلمان. وفي العام 1999، تزامنت العملية الانتقالية من يلتسن إلى بوتين مع استئناف الحرب في منطقة الشيشان الانفصالية وسلسلة من التفجيرات الغامضة في مجمعات سكنية في موسكو أسفرت عن قتل المئات. وعندما تنحى بوتين من الرئاسة موَقتاً في العام 2008 بحُكم القانون، نظّم منافسوه عمليات لاعتقال شخصيات محورية من مختلف المعسكرات: إنه نوع من الابتزاز السياسي الذي يهدف إلى كسب النفوذ خلال الصراع على السلطة. باختصار، تميل مراحل نقل السلطة في روسيا إلى اتخاذها منحىً فوضوياً جداً.

سينتهي عهد بوتين بطريقة ما يوماً. وحين يأتي ذلك اليوم، لن تتردد أوساطه الداخلية في التكاتف للحفاظ على نظامه. لكن يفضّل الخاسرون في صراع السلطة أحياناً القتال بدل الاستسلام. هم يحاولون الاستيلاء على الأدوات الاقتصادية والسياسية في معظم الأحيان، لكنهم يستعملون الدبابات والأسلحة من وقتٍ لآخر. بالنسبة إلى قوة نووية عظمى تنشغل راهناً بخوض حرب وحشية ضد ثاني أكبر بلد في أوروبا، حتى أصغر احتمال لانهيار النظام يثير قلق العالم.


MISS 3