السفير د. هشام حمدان

قراءة في الإنتخابات النيابية في لبنان

21 أيار 2022

02 : 00

تمكّن اللبنانيون، خلال شهر أيار الجاري، من إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها، وبمسار جيّد بشكل عام. لكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ لبنان مارس فعلاً المفهوم الديمقراطي للعمل الإنتخابي. وبعيداً من غوغائية المشاعر السائدة، سأسعى إلى تقديم قراءة موضوعية لهذه الإنتخابات، قبل أن أنتقل إلى قراءة توقّعاتي للمرحلة المقبلة.

أولاً: نقد النّموذج الدّيمقراطي للإنتخابات الأخيرة.

لا شكّ أنّ تنظيم الإنتخابات، والمشاركة الحرّة للناس فيها، يشكّل علامة إيجابية، ليس لمصلحة السلطة، بل لمصلحة النظام والدستور، في لبنان. أمكن للسلطة تنظيم الإنتخابات، لأنّ قوى الإحتلال المقنّع للبلاد لم تكن قادرة على مواجهة الإرادة الخارجية بهذا الصّدد، والتي عبّر عنها مراراً، قادة الدول الغربية. وهذا بحدّ ذاته، مؤشّر على تأثير العامل الخارجي، في صناعة القرارات الوطنية في لبنان. كنّا قد استمعنا مراراً إلى تعليقات وأنباء، عن مساعٍ جارية لمنع إجراء الإنتخابات، أو تأجيلها. لكنّ ذلك لم يحصل، بسبب هذا الموقف الغربي كما أشرت.

حصلت الإنتخابات. ويمكن التّنويه بمشاركة المغتربين. فقد كانت نسبة مشاركتهم أعلى من السابق. لكنّ نسبة المشاركة الإجماليّة في هذه الإنتخابات، كانت أدنى من الدورة الماضية في عام 2018. فالعديد من اللبنانيين، قاطعوا الإنتخابات، بسبب عدم ثقتهم بالأحزاب، أو بجماعة الثورة، وشعورهم أنّ الإنتخابات ستمنح مشروعيّة لقوى الدويلة، للإستمرار في القضاء على الدولة.

حصلت الإنتخابات فعلاً، لكنّ قانون الإنتخاب لم يكن ديمقراطيّاً. فمن جهة، لم يستكمل تطبيق اتّفاق الطّائف وإقامة مجلس للشيوخ، أو إقامة اللجنة الوطنية لإلغاء الطائفيّة السياسية، أو إقامة مجلس نيابي خارج القيد الطائفي. ما شهدناه في هذه الإنتخابات، مقلق جداً. فقد زادت الطائفية السياسية لتتحول عصبيّة دينيّة. وهذا بحدّ ذاته، تدمير واقعي لأيّ حلّ مقبل للحالة في لبنان. فإذا كان لبنان لا يستطيع الخروج من مأزقه في ظلّ الدويلة، فهو لن يستطيع أيضاً الخروج من مأزقه في ظلّ تعاظم الإنقسام الطّائفي في البلاد. التعصّب الطائفي المغطّى بتعصّب حزبي، سمة لبنانية نقدّمها إلى العالم، بعد الحرب الباردة، كنموذج عن التحوّل من الأحزاب الإيديولوجيّة. لطالما كان استغلال العصبية الدينية الوسيلة لتدمير الوحدة الوطنية في أي بلد، وتدمير إرادة التحرّر والإستقلال فيه. كم نحن بحاجة لأن نستفيق إلى أنّ الحرّية والدّيمقراطيّة الصحيحة، بحاجة إلى عقل حر.

حصلت الإنتخابات، لكنّ كلّ التّرتيبات التي كان يجب حمايتها، لتفعيل انتخابات ديمقراطية، فشلت. الشفافية كانت شبه مفقودة، وشراء الذّمم كان واسعاً جداً، وأداء قوى الأمن كان ضعيفاً. ويمكن القول أنّه لولا الإنضباط الذّاتي لدى قسم كبير من المواطنين، وخاصّة الذين يواجهون سلاح الدويلة، لكان حصل ما لا تحمد عقباه.

ثانياً: قراءة في خلفيات المعركة الإنتخابيّة

كان واضحا أنّ خيار الدويلة، بتوسيع رقعة سيطرتها المباشرة لتصل إلى الجبل، وبيروت السنّية، والبقاع، والجنوب، والشمال، قد انعكس سلباً عليها. فهذا التوجّه أخرجها عن الحدود المسموح لها بها، ودفعت القوى المحلية والخارجية الحليفة معها، إلى مواجهة هذا التخطيط والسّعي إلى عكسه. فاختلفت شعارات الأحزاب، والمرشّحين المستقلّين، لتُجمع، ولأوّل مرّة، على شعار السيادة في وجه الدويلة.

يمكن القول، إنّ هذا الأمر، شكّل مفاجأة، ليس فقط لحزب إيران وحلفائه، بل أيضاً، إلى كثير من اللبنانيّين الذين قاطعوا الإنتخابات لهذا السّبب لأنهم لم يعتقدوا بفائدتها، ما لم تتوجّه إلى سبب المشكلة، وهو وجود الدويلة إلى جانب الدولة، وهيمنتها عليها.

هذا يدفعني إلى مراجعة موقف الحزب، والأطراف الخارجية. فالحزب غفل عن حقيقة أنّ دوره في مصير الحالة القائمة في الشّرق الأوسط، قد تقلّص كثيرا، بعد حرب أوكرانيا. لم ينتبه الحزب إلى أنّ الولايات المتّحدة لم تعد مستعجلة إلى عقد الإتّفاق النّووي مع إيران. وهي الآن، وخاصّة بعد لقاء النّقب الأخير، ستكون أكثر تشدّداً مع إيران. لقد كتبتُ قراءة بهذا الصّدد كان من الممكن لأرباب التحليل عند الحزب، أن يستفيدوا منها. لكنّ الغرور الأعمى، بل والعصبيّة، تلغي المنطق، وتعاديه.

أمّا بالنسبة للأطراف الخارجية، فبالإضافة إلى أنّها أرادت لجم تمدّد «حزب الله» ودويلته، كما أشرنا آنفاً، فقد كان واضحاً أيضاً، أنّها لا تسعى، ولا تدفع القوى السّيادية المحلية، لأن تذهب بعيداً في طموحاتها، وخاصّة في ما يتعلّق بتطبيق القرارات الدولية ولا سيما القرار 1701 (الذي يشمل القرارين 1559 و1680). فهي كرّرت أكثر من مرّة، أنّ ما تريده هو إقامة حالة من الإنفراج الداخلي، يسمح بتحقيق ما تعتقد أنّه إصلاحات ضرورية لاستعادة التوازن الإقتصادي في البلاد، ولا يخرج عن دائرة مكافحة الفساد.

وعلى ضوء ما تبيّن لماكينة حزب إيران، فقد كان من الضروري التركيز أوّلاً على حماية البيئة الشيعيّة. ثمّ دعم الحلفاء، ووفقاً لأولويّات إيران والحزب. لم يعد هاماً دعم حلفاء النّظام السّوري. فالنّظام السوري يحتضر وفي نهايته. أمّا الآخرون فهم الذين يمكن أن يستمرّوا بتغطية دور الحزب، إقليميّاً ودوليّاً. لذلك كانت الأولويّة لحماية «التّيار الوطني الحرّ»، و»المردة»، والمرشّحين السنّة الذين يمكن أن يكونوا حصان طروادة في البيئة السنيّة، بعد غياب الحصان السابق، سعد الحريري.

ثالثاً: قراءة سريعة للإحتمالات القادمة.

ذهبت الآن السّكرة، وجاءت الفكرة.

ثمّة حاجة ولا شكّ، للتريّث قليلاً، قبل قراءة ما قد ينتظرنا في المستقبل القريب. لكن من الممكن قراءة بعض ملامح تلك المرحلة إستناداً إلى ردّ الفعل الذي حصل على الأرض من جماعة حزب إيران وحلفائه.

أولاً: لاحظنا ردود السيّد وئام وهاب. فهو ذهب بدايةً إلى التّهديد بتعميق الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في البلاد، ثم ذهب في اليوم التالي، إلى إشهار ولائه إلى «آخر نفس» للمقاومة. أعطى السيّد وهاب في هذا التصريح المقلق، بعداً طائفيّاً مقيتاً ومقلقاً لتصريح رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» في المجلس النيابي السيّد محمد رعد. والسيد وهّاب، كما هو معروف، لديه لواء من المدرّبين عسكريّاً، تحت شعار أنصار المقاومة. لقد سارعنا إلى تحذيره من تحويل نفسه عدوّا داخل عتبة البيت الدرزي، وتمنّينا عليه بإخلاص أن يلعب دور المعارضة البنّاءة لخصومه.

وبالفعل، شكّلت تهديدات الحاج محمد رعد، عاملاً مقلقاً لجميع المراقبين. لكنّي أعتقد أنّ هذه التّهديدات لم تكن موجّهة إلى القوى المحليّة بقدر ما هي موجّهة إلى القوى الخارجية، الإقليمية والدولية. فحزب إيران يعلم جيّداً حاجة الغرب لتعاونه معهم في لبنان. يمكن أن يكون دوره في سوريا، قد تقلّص، لكنّ دوره في لبنان ما زال هامّاً. الغرب لا يحتمل حاليّاً أيّة حرب في المنطقة، فهو مشغول بأحداث أوكرانيا، ولا يريد حرباً في لبنان، ستفتح الباب حتماً على حرب إقليمية بمواجهة إيران. وبالفعل لفتني فعلاً سرعة تصريح أمين عام الأمم المتّحدة، ودعوته إلى حكومة جامعة للبنانيين.

فماذا يعني ذلك؟

يعني ذلك أنّ الغرب سيجد في الإنتخابات التي جرت، سبباً يختبئ خلفه، ليدفع قدماً، من جديد، بلعبة المحاصصة. ويعني وبكلّ بساطة، أنّ الغرب لا يضع في حسبانه حتّى الآن، تفعيل قراراته بشأن السّيادة في لبنان.

كلّ الذي يريده هو المظهر الإصلاحي، بل ووفقاً لما يقرّره هو، لهذا المظهر الإصلاحي. هذا المظهر الإصلاحي، بحسب المفهوم الغربي، يعني زيادة مديونيّة البلاد. الإصلاح في لبنان حقّ للبنانيّين، ويجب أن يحصل بعد دراسة الإخصائيين لكلّ مفاصله، وليس بناء لقرار السياسيّين.

هذا الواقع يعني إستمرار القدرة الغربيّة على ممارسة الضغوط على أهل السلطة للقبول بالخط 23 لترسيم الحدود البحرية للمياه الإقليمية بين لبنان وإسرائيل. الغرب غير مهتم فعلاً بمصلحة لبنان الضّعيف. بل يسعى إلى تسليم الغاز والنفط اللبناني مجّاناً إلى الدولة العبريّة. كما أنّ هذا الواقع يعني، عدم إستقطاب الإستثمارات، وزيادة الأزمة المالية، ممّا قد يدفع نحو تسييل الذّهب، وربما بيع العقارات العائدة للدولة.

لا أستطيع إلّا أن أقول حذار. فهذه الدّعوة تخالف تمنيات اللبنانيّين الذين يريدون الدّفع قدماً بالسيادة. الأيّام القليلة المقبلة، ستظهر التّوجه المقبل. الدكتور جعجع كان واضحاً في لقاء تلفزيونيّ، أنّ انتخاب رئيس المجلس النيابي سيتمّ وفقاً للدستور، وليس لأحكام المحاصصة. هذا الإستحقاق سيظهر فعلاً النيات الموجودة لدى السياديّين. فلننتظر... وأنّ الغد لناظره قريب.


MISS 3