شربل داغر

موتى غرقى في المتوسط

23 أيار 2022

02 : 00

موتى، غرقى، في المتوسط.

بالمئات وأكثر. اسبوعاً تلو اسبوع. لكنهم يعاودون الكلام عن المتوسط، عن لزومه، عندما يعجزون عن الحوار السياسي او الدبلوماسي.

المتوسط كذبة. ورقة مهملة متروكة لكي لا يحدث فراغ بين الجيران المتخاصمِين.

اعيش المتوسط لشهور في السنة، وأنساه في الشهور المتبقية.

اعيشه في شهور الاقامة الشتوية، ويختفي المتوسط عن ناظري في أشهر الصيف.

المتوسط، هنا، لكنني لا أراه. أجاور وأحاور من هم الى جانبي، من دون أن ألتقيهم.

أشبههم، ويشبهونني، من دون أن نلتقي في مرآة.

لو جلس غيرنا معنا حول المتوسط، لكنا وجدنا أنفسنا نحيط به، كما لو أننا عقدٌ في عنقه.

أعيش في موازاة البحر، لكنني أدير ظهري له، أو أكتفي بغسل أقدامي فيه.

لو اقتربنا أكثر منه، لوجدنا أن هذا البحر، "بحرنا" (حسب العبارة اللاتينية القديمة -nostra mare -)، يشبه، في تكوينه الجيولوجي، انشقاقاً لما كان منبسطاً واحداً، وأصبح في ضفتَين.

هذا الانشقاق انتهى إلى أن يكون بحيرة دامية، معتكرة الأمواج، على الرغم من عاداتٍ وأشجار وتقاليد وألوانِ بيوت تشترك فيها مدن المتوسط وجباله أيضا.

هذا البحر المشترَك يتحول إلى بحيرة ذات ضفتَين، بين شمال وجنوب، ما يستنفر العداء والغلبة.

أو ما يستنفر القربى، والاشتهاء، والملامسة، والحسد، والغيرة... أي مشاعر الجيران المتقاربِِين، المتباعدِين. هكذا لا تبتعد تونس عن إيطاليا، في إحدى تخومها، عن 130 كيلومتراً... هذا ما جعل القراصنة (مثل برباروسا في الجزائر) يتسيدون أحيانا في دولة.

أو ما يجعل المهاجرِين (كما في أيامنا الحالية) يَركبون قوارب بسيطة للوصول إلى الضفة الأخرى.

لعل المتوسط حلمٌ لبعضهم، بل "مستقبلٌ" للثقافة، مثلما نظر إليه طه حسين في كتابه البرنامجي الشهير: "مستقبل الثقافة في مصر".

لعل المتوسط أسطورة، لا تكفيه حكاية هنيبعل الخارقة، التي تبعَها حريق عاصمته، قرطاج.

هذا التجوال الفينيقي، الذي بنى مواطئ لتجارة وتفاعل في العهود القديمة، ما لبث أن دخل في عهد القرابة الصعبة: قرابة الغلبة.

هذه الكثافة: في التاريخ، في الاعتقادات التأسيسية، في فلسفات وعلوم وآداب، تحتمل التفاعل في قليلها، والتنابذ في كثيرها.

لعل المتوسط بطنُ العالم، وولّادتُه، وخروجُه الدامي من مضيق الجغرافية إلى تيه الإنسان في التاريخ.


MISS 3