د. غريس الياس

إشكاليّة التمثيل السُّني في النظام اللبناني

28 أيار 2022

02 : 00

لقد قطعت القوى السِّياسيّة السُّنيّة في لبنان مساراً طويلًا منذ إنشاء لبنان، في مسيرة قبول الدَّولة والاندماج فيها. فبين 1920 و1943 كان الموقف من الكيان ذا طابعٍ سلبيّ، لأنَّ رفض السُنَّة الإعتراف به وضعَهُم في مواجهة الموارنة، ما طرح مشكلة استمرار وجود الكيان على المدى الطويل. العام 1943 أصبح الموقف إِيجابيًّا، فقد شكَّل السُنَّة الفريق الثَّاني في تركيز الكيان اللُّبناني، إذ إنّ قبولهم به أَعطاه استمراريّةً وشرعيّةً داخليّة. ومن 1943 إلى 2022 كان السنّة يسعون للمشاركة أكثر في السلطة، وأصبحوا أَحد الفُرقاء والشُّركاء الأساسيّين في الصِّراعات والتَّسويات.



إلا ان المكوِّن السُّنِّي يواجه لحظة تحول تاريخيّة في المشهد السياسي اللبناني، ففي 24 كانون الثاني 2022، اعلن الرئيس سعد الحريري تعليق عمله في الحياة السياسية، داعياً تيار المستقبل الذي يرأسه إلى اتخاذ الخطوة نفسها، وعدم الترشح للانتخابات النيابية، وعدم التقدم بأي ترشيحات منه أو باسمه. انسحب الحريري من الحياة السياسية، لاقتناعه، بأن "لا مجال لأي فرصة للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي".



اتت هذه الخطوة في حين كان تيَّار المستقبل لا يزال يمثِّل الأكثريّة السُّنيّة في النِّظام السِّياسي اللُّبناني وذلك بالرُّغم من وجود آراءٍ سُنِّيّةٍ مخالفةٍ له، فقد حصل على 21 مقعداً في مجلس النواب في انتخابات العام 2018 بعدما خسر ثلث المقاعد التي فاز بها تياره في انتخابات العام 2009 ، وقد تمكن "حزب الله" وحلفاؤه من إيصال ستّة نواب سُنّة الى المجلس النيابي بأصوات ناخبيهم.



تراجع الإسلام السياسي



بالرُّغم من ازدياد الضُّغوط على المكوِّن السُّنّي في لبنان منذ العام 2005 تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصعود "الإسلام السياسي" الشيعي المتمثل بـ"حزب الله"، فإنّ "الإسلام السِّياسي" السُني لم يحقِّق نجاحاً كبيراً في الوصول الى السلطة، وذلك عائد إلى ثلاثة أسباب: الأَول: بقاء أكثرية أهل السُّنّة ضمن "تيَّار المستقبل"، وبقاء الأمل لديهم بالدَّولة ومشروعها. والثَّاني: إفتقار "الإسلام السِّياسي" إِلى المشروع البديل. والسّبب الثَّالث: عدم وجود الجهة الدَّاعمة، والتي تتبنّى هذا الطَّرف أو ذاك، وتستخدمه في تحقيق أهدافها، مثلما هو الأَمر مع "حزب الله"، أو مع بعض الجماعات السُنِّيّة الصَّغيرة. إلا ان المشهد السياسي السُّني اليوم (2022) هو عرضة للتغير، بسبب العديد من المعطيات.



تجلى خروج الرئيس سعد الحريري هو وتياره من الحياة السياسيّة، بإظهار الطائفة السنيّة كطائفة تفتقد الى القيادة ومن أضعف الطوائف اللبنانيّة في الصراعات الداخليّة، من دون أي توافق داخلي ومن دون دعم عربي، وبخاصة سعودي.



في حين ساهمت عدة معطيات بانسحاب المملكة العربية السعودية من لبنان، وفقدان الدعم للسُّنة، فقد تسبّبت التسوية الرئاسيّة في العام 2016، وربط النزاع مع الحزب حول سلاحه، وتقديم التنازلات السياسيّة مع التيار الوطني الحرّ والتسويات السياسيّة لاحقاً بنكسة لعلاقات الحريري مع المملكة، وتقديم استقالته في العام 2017 من رئاسة الحكومة في الرياض، ومن ثم التراجع عنها عند عودته الى لبنان. واستكمالاً لإبتعاد السعوديّة عن الملف اللبنانيّ، وقطع علاقاتها بالحريري، رفض العاهل السعوديّ الملك سلمان في لقاء له مع المفتي عبد اللطيف دريان في 23 آب 2018، الاستجابة لطلب الأخير بتقديم أيّ دعم للطائفة السُّنّية بوجود الحريري في السلطة. ودلّ ذلك على ضعف الطائفة السُّنّية بخسارتها للدعم السعوديّ، الامر الذي جعلها من دون غطاء خارجي، وغطاء داخلي مع انفكاك تحالف الحريري مع كلّ من وليد جنبلاط وسمير جعجع الذي وصل الى حد العداوة مع القوات اللبنانيّة والمهاجمة المستمرة بدل توحيد الجهود الداخلية لمواجهة الخطر الحقيقي على الدور السني وعلى السيادة اللبنانيّة.



لا وجود لمشروع استنهاضيولم تؤدِّ اللقاءات مع نادي رؤساء الحكومات السابقين تعويماً سُنياً للحريري، بل كان المستفيد هو الرئيس نجيب ميقاتي حيث انه حتى الساعة لم يستطع انتاج مشروع استنهاضي للطائفة السُّنية. وازداد ضعف الحريرية السياسيّة بصعود بهاء شقيق سعد، كمنافس له على الزعامة السُّنية، ما أدى الى تفكك البيت الداخلي. كما ان تمرد قيادات سياسيّة اساسيّة على قرار سعد الحريري وأبرزها الرئيس فؤاد السنيورة من خلال دعوته الى المشاركة بكثافة في الانتخابات النيابية وعدم مقاطعتها متماهياً مع موقف مفتي الجمهورية اللبنانية عبداللطيف دريان بعدم المقاطعة السُنيّة، غير ان هذه الخطوة أتت ضعيفة بسبب عدم احتضانها من البيئة السُّنيّة. هذا فضلاً عن الضعف الكبير في دور دار الفتوى كمرجعية موحدة للسُّنة. ومن جهة أخرى هناك شريحة من المجتمع المدني من الداعين الى التغيير ولكن لا جبهة موحدة لهم وهناك خوف من ان يكون "حزب الله" هو من يوظف بعضهم.



وفي ظلّ تراجع دور المملكة العربيّة السعوديّة في لبنان وانكفائها إلى حدٍّ كبيرٍ (2021)، إلا انها عادت بخجل عشيّة الانتخابات النيابية في أيار 2022. من هنا تحاول بلدان مثل تركيا وقطر الدخول الى الساحة اللبنانيّة، وبالرغم من الكلام عن دور تركي مهم في شمال لبنان نظراً لوجود لبنانيين من أصل تركماني، ووجود جمعيات تركية فاعلة، إلا ان تركيا تعاني من عدم التوازن بين طموحاتها للسيطرة وللبروز كقوّةٍ وبين الموارد التي تمتلكها للوصول إلى هذه الوضعيّة، بعكس قطر التي تمتلك الوسائل وبخاصة الماليّة التي تخولها لعب دور سياسي مهم في لبنان في حال حصولها على الموافقة الأميركيّة، علماً انه يُؤخذ عليها دعمها للحركات الإسلامية. فهل ستملأ قطر الفراغ الذي أحدثه الانسحاب السعودي من لبنان، وتصبح الداعم الأساسي لسُّنة لبنان، وبخاصة انه لا تتوافر للطائفة السُّنيّة إمكانيات الصمود تجاه الإنهيار السياسي والإقتصاديّ والإجتماعيّ، بعكس الطائفة الشيعيّة التي تحظى بالدعم الإيراني.



الامر الذي ترك تساؤلات كثيرة لا تزال دون جواب حول التمثيل السُنّي في الانتخابات النيابيّة التي جرت مؤخراً. فهل ان الساحة السياسيّة السُّنية ما بعد الانتخابات متجهة نحو التطرف، بحيث يتقدم "الإسلام السياسي" السُّني، وأبرز وجوهه وأكثرها تنظيماً الجماعة الإسلاميّة في لبنان التي تمتلك على الصعيد الاجتماعي المؤسسات والخدمات وهي فاعلة جداً، وتُعدّ "الجَّماعة الإسلاميّة" الذِّراع اللُّبنانيّة لجماعة الإخوان المسلمين، وأقدم التنظيمات الإسلاميّة السُنّية في لبنان، فهل سيكون لها دور سياسي ملحوظ في المستقبل؟ وماذا عن جمعية المشاريع الخيريّة الإسلامية "الأحباش" التي نالت مقعدين نيابيين بتحالفها مع المحور الداعم للإسلام السياسي الشيعي "حزب الله"؟



وهل ان تعليق العمل السياسي لتيار المستقبل سوف يدفع "الإسلام السياسي" السني الى تعبئة الفراغ وبخاصة إذ ما وجدت الجهة الداعمة والممولة للمشروع البديل، ووصول اقطاب تدور في فلك "حزب الله" تحت شعارات مبطنة وخفيّة... وهل هناك خطر بأن يعيد المسلمون السُنّة النظر بهذا القبول النهائي بالكيان اللُّبناني عودةً إلى موقفهم في الحقبة التي امتدت ما بين1920 و1943؟



وهل سنرى حالات أخرى مشابهة لحالة الشيخ أحمد الأسير في صيدا التي ظهرت - كما تبرِّر نفسها - لمواجهة التحدّي الأمني الذي "فشل المستقبل" في التعامل معه والمتمثِّل بسلاح "حزب الله" في الدَّاخل اللُّبناني، كما وظاهرة أُمراء المحاور السنَّة في التبَّانة (طرابلس) لمواجهة "سلاح جبل محسن" المؤيّد للنّظام السوري، وايضاً جبهة النصرة وداعش التي ظهرت في لبنان على أثر تدخل "حزب الله" في الحرب السورية. فهل سوف ينتج عن ذلك بروز لفاعلين جددٍ لا يَرَون خياراً إلّا في اللُّجوء إِلى العُنف والتَّشدّد ونبذ "اللعبة السِّياسيّة" الخاسرة كما يرونها بسبب سيطرة "حزب الله" على الحياة السِّياسيّة، إن كان هذا الامر قد برز قبلاً، فكيف الحال اليوم والتشرذم والإنهيار السُّني أشد وطأة؟



وهل ستتمكن الانتخابات النيابية من تحقيق التغيير المنشود داخل السلطة السياسيّة، في ظل عدم التوازن بين الجماعات اللبنانيّة في ظل وجود جماعة تمتلك السلاح وحدودها أبعد من مساحة الوطن لبنان؟ 

MISS 3