قال بايدن، في خطاب حالة الاتحاد في بداية شهر آذار، إن الحرب في أوكرانيا هي معركة بين الحرية والطغيان. ثم أعلن في خطاب آخر، بعد بضعة أسابيع في وارسو، أن واشنطن ستقود العالم الحر إلى النصر في خضم الصراع العظيم "بين الديمقراطية والاستبداد، وبين الحرية والقمع، وبين النظام المبني على قواعد واضحة ونظامٍ تحكمه القوة الغاشمة".
يملك بايدن سبباً وجيهاً للتركيز على هذه المسائل. لقد أثبت الغزو الروسي مدى ارتباط الصراع على تحديد معالم النظام العالمي بمفاهيم متناقضة عن الأنظمة المحلية، وأجّج أيضاً الصراع القائم بين الديمقراطيات المتقدمة والأنظمة الاستبدادية في أوراسيا. حتى أنه ضخّ حياةً جديدة في سياسة بايدن الخارجية التي كانت تتجه إلى الانهيار أو الفشل التام منذ بضعة أشهر. لكن من حق منتقدي نظرية الصراع بين الديمقراطية والاستبداد ألا يقتنعوا بأن العالم بهذه البساطة. للفوز في هذه المنافسة بين مختلف الأنظمة، لا بد من تصميم استراتيجية تأخذ هذه التعقيدات بالاعتبار.
يجب أن يُحدد بايدن أولاً المسائل التي تعارضها واشنطن: هي لا تعارض وجود الأنظمة الاستبدادية بل خليط الطغيان والنفوذ والعدائية الذي يُهدد الولايات المتحدة والنظام الدولي الذي بَنَته. ثم يجب أن يوضح مفهومها عن "العالم الحرّ"، إذ يبقى هذا المصطلح المألوف مرناً أكثر مما يوحي به. أخيراً، يُفترض أن تعالج إدارته المشاكل الأساسية التي يطرحها هذا التعريف. قد تستفيد واشنطن من استراتيجية العالم الحر لمنع هذا القرن من التحول إلى عصر التفوق الاستبدادي، لكن تترافق هذه الاستراتيجية أيضاً مع أسئلة شائكة حول الأطراف المشارِكة والمستبعدة وكيفية إدارة العالم الذي يزداد انقساماً وترابطاً في آن.
يجب أن يبدأ بايدن بتحديد التحالف الذي يريد حشده. اليوم، يُعتبر العالم الحر مرادفاً لائتلاف ثلاثي الأبعاد. يشمل المعسكر الأول حلفاء الولايات المتحدة في معاهدة الديمقراطية، أي الديمقراطيات الليبرالية عموماً في العالم الأنغلوفوني والمساحة العابرة للأطلسي، وأقوى الأطراف في التحالفات الأميركية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. تبدي هذه المجموعة استعدادها للتعاون المؤسسي الوثيق بناءً على قيم ومصالح مشتركة، وهي تشكّل جوهر أي تحالف لمقاومة العدوان وحماية التفوّق التكنولوجي الديمقراطي وتجاوز التحديات الاستبدادية. لن يكون تعزيز التعاون داخل التحالفات القائمة كافياً إذاً، بل يجب أن تقوي هذه الأطراف الروابط بينها، كما فعلت الدول المشارِكة في اتفاق "أوكوس".
يتألف المعسكر الثاني من الشركاء الديمقراطيين. غالباً ما تصطف هذه الدول مع الولايات المتحدة بشكلٍ شائب أو غير متماسك. هي لا تحبذ القوة الأميركية بشكل عام، لكنها لن ترتاح طبعاً إذا سيطرت الأنظمة الاستبدادية التوسعية على العالم، لذا من المنطقي أن تقدّم المساعدة في مسائل معينة.
قد تتردد الهند في قطع علاقاتها مع روسيا، لكنها تبقى جزءاً أساسياً من حملة التصدي للصين على المستويَين الجيوسياسي والتكنولوجي. أما أندونيسيا، فمن المتوقع أن تُكثّف تعاونها مع واشنطن في المسائل الأمنية، حتى لو حافظت على روابط تجارية وثيقة مع بكين. يُفترض أن يُركّز بايدن إذاً على تطوير المؤسسات والترتيبات، بما يشبه التحالف الرباعي أو مختلف التحالفات التكنولوجية، لتعزيز قوة العالم الحر عبر توثيق الروابط بين أول معسكرَين من هذا الائتلاف.
يشمل المعسكر الثالث أنظمة استبدادية حميدة نسبياً: إنها الدول غير الليبرالية التي تدعم النظام الدولي بقيادة قوة ديمقراطية عظمى. يصعب التمييز طبعاً بين الدكتاتورية الجيدة والسيئة. لكن تتكل مجموعة من الأنظمة الاستبدادية على اقتصاد عالمي منفتح بقيادة الولايات المتحدة، وهي تقع في مساحة جغرافية استراتيجية تجعلها أكثر عرضة لتهديدات بكين أو موسكو، ما يعني أنها تتكل على واشنطن لمساعدتها، أو ربما تكون راسخة في النظام الراهن بكل بساطة. يسهل أن تتعاون هذه الدول، منها فيتنام وسنغافورة، مع الولايات المتحدة، خدمةً لمصالحها الخاصة، لكبح العدوان الاستبدادي الأكثر تطرفاً. لكن سيبقى تعامل هذه البلدان متحفظاً مع الديمقراطيات في ملفات مثل حقوق الإنسان، ومستقبل الإنترنت، ومسائل أخرى مرتبطة بالحوكمة.
يمكن بناء استراتيجية العالم الحر استناداً إلى مبادئ محددة من دون إعطائها طابعاً مطلقاً أو انهزامياً، ما يعني أن تطرح منطقاً معقولاً للتعاون مع بعض المستبدين ضد آخرين. حتى أنها تحمل جانباً استراتيجياً: قد يسمح تحالف العالم الحر للأميركيين وأصدقائهم بالتفوق بشكلٍ حاسم في بعض المسائل الأساسية. لكن تكثر التحديات المطروحة في هذا المجال.
يتعلق التحدي الأول بإدارة الترابط المتزايد في عالمٍ منقسم. يجب أن يتمحور الهدف الرئيسي حول الامتناع عن فك ذلك الترابط بالكامل وجعل شروطه مفيدة للعالم الحر. ترتكز هذه العملية على الفصل الانتقائي، ما يعني حرمان الشركات الصينية من الوصول إلى الاستثمارات والمعدات المتطورة تقنياً، أو توسيع حرية التصرف في أوروبا عبر وقف اتكالها على إمدادات الطاقة الروسية. الأهم من ذلك هو تعزيز التماسك التجاري والمالي والتكنولوجي في العالم الحر وتسريع نموه وابتكاره، مقابل تقليص نقاط ضعفه أمام إكراه الأنظمة الاستبدادية. إنه هدف عاجل لأن الصين تسارع اليوم إلى تخفيف تعرّضها للضغوط الاقتصادية الدولية لأنها تعرف أن شروط الترابط العالمي قد يُحدد توازن القوى خلال الأزمات.
تتعلق صعوبة أخرى بإشراك الحلفاء الديمقراطيين المترددين في هذه الجهود: إنها الدول التي تتعاون مع واشنطن في مسائل ملموسة لكنها لا تحبذ بالضرورة نموذج العالم الحر. تحتاج الولايات المتحدة إلى خطاب مغاير لاستهداف جماهير مختلفة. قد تكون مبادئ تقرير المصير وحرية الخيار الجيوسياسي أكثر إقناعاً من نظرية الصراع بين الديمقراطية والاستبداد في أفريقيا أو جنوب شرق آسيا. يُفترض أن تعطي واشنطن الأولوية لما تريده من هؤلاء الشركاء لأن اختيارهم للشركة التــــي تزوّدهــم باتصالات الجيل الخامس قد يكون أهم من موقفهم تجاه أوكرانيا. لكن يجب أن يقتنص بايدن الفرص التي تقدّمها له الحرب.
اليوم، باتت الاستراتيجيــــة الهندية التي تقضي باستعمال الأسلحـة الروسية لحمايـة نفسها من الصين بالية: إذا أصبحت موسكو مشلولة بسبب الصراع الأخير والعقوبات المرافقة له وزاد اتكالها على بكين، فلن تتمكن من تزويد الهند بالمعدات العسكرية التي تحتاج إليها خلال الأزمات. لذا تستطيع الولايات المتحدة ودول ديمقراطية أخرى أن تكبح نزعة الهند إلى تغيير مواقفها مع مرور الوقت عبر مساعدتها في تخفيف اتكالها على المعدات العسكرية الروسية.
أخيراً، يجب أن يجيب بايدن على سؤالٍ كان يتجنّبه حتى الفترة الأخيرة: ما نهاية استراتيجية العالم الحر؟ لا يحتاج هذا النوع من الاستراتيجيات إلى أهداف مثل تغيير الأنظمة، مع أن تعليقات بايدن الارتجالية حول بوتين أوضحت هذه المسألة. تستطيع الديمقراطيات أن تسيطر على الاضطرابات التي تُسببها الأنظمة الاستبدادية العدائية، ويُعتبر الانفراج الذي شهدته الحرب الباردة خير مثال على ذلك. لكن إذا كان الصراع قائماً بين دول تحمل رؤية عالمية متباينة بناءً على أنظمة محلية مختلفة بالكامل، يعني ذلك أن الانفراج سيكون موَقتاً هذه المرة أيضاً. أمضت الولايات المتحدة عقوداً عدة وهي تحاول جرّ موسكو وبكين إلى النظام الدولي. حان الوقت إذاً كي تقوي العالم الحر من حولها وتُضعِف قدرة البلدَين على إيذاء الآخرين، إلى أن تتغير سياستهما الداخلية أو يتلاشى نفوذهما. تستطيع استراتيجية العالم الحر أن توصلنا إلى نهاية سعيدة، لكنّ تلك النهاية لن تتحقق قبل مرور وقت طويل جداً.