عيسى مخلوف

المسرحيَّة المتوحِّشة!

4 حزيران 2022

02 : 00

لوحة "الحرب" للفنان مارك شاغال

نفتح عيوننا صباحاً على العناوين التالية في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي: اليوم الأوّل، "كيف تجري محاولات قتل الشهود في قضيّة شيرين أبو عاقلة؟". اليوم الثاني: "الحرب في أوكرانيا: فولوديمير زيلينسكي يتّهم روسيا بِممارسة "الإبادة الجماعيّة" في دونباس"، "جدري القرود: أوروبا تستعدّ لشراء اللقاحات"، "إطلاق نار في مدرسة ابتدائيّة في تكساس: مقتل 19 طفلاً ومعلّماً". اليوم الثالث: "برّي… والانتصار فوق الخراب"، "المستقبل المجهول لمقاتلي آزوفستال"، "القوات النووية الروسية أجرت تدريباً بعد إعلان واشنطن تزويد أوكرانيا براجمات". وفي الثاني من حزيران، ذكرى اغتيال سمير قصير: "في الاغتيال السياسي (مدخل لبناني)" للكاتب والباحث والمؤرّخ أحمد بيضون.هذا جزء يسير جداً من عناوين الإعلامين العربي والعالمي في الأيّام القليلة الماضية، وهكذا هو هذا النوع من الأخبار كلّ يوم على مدار السنة. كونستانتين غودوسكا (39 عاماً) استطاع أن ينقذ مئات المدنيين من أوكرانيا. ولقد سجّل شهاداتهم، وشهادات ضحايا الاغتصاب، كما فعلت الكاتبة السورية سمر يزبك حين وثّقت شهادات سوريّات في كتابها "تسع عشرة امرأة/ سوريّات يروين". كان غودوسكا، قبل مجيئه الى أوكرانيا، صحافياً وناشطاً في مجال حقوق الإنسان في بلده كازاخستان، وقد عاش لحظة اقتحام بوتشا، إحدى المدن والبلدات التي شهدت مذابح أودت بحياة مئات المدنيين، كما رصدتها منظّمة "هيومن رايتس ووتش". في بوتشا، التقى غودوسكا إحدى المغتصبات وهي في الرابعة عشرة من عمرها وكانت عيناها، كما وصفهما، "ملتهبتَين ومحتقنتَين بالدماء". قالت له: "أنقذني". وأخبرته بأنّ الجنود الروس اغتصبوها لمدة عشرة أيام داخل قبو، بينما كانت والدتها مقيّدة على كرسي، ومجبرة على مشاهدتها. قال لها الجنود: "نحن نغتصبك حتى لا تتمكّني من إنجاب أطفال بعد اليوم"... ولئن استطاعت هذه الفتاة أن تهرب، فإنّ نساء وفتيات كثيرات قُتلنَ مباشرةً بعد تعرّضهنّ للاغتصاب.

نتائج هذه الحرب وانعكاساتها على الكبار والصغار لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ العام 1945. هناك على الأقلّ 262 طفلاً قُتلوا حتّى الآن، وأكثر من خمسة ملايين شخص يحتاجون الى مساعدات إنسانية، بحسب "منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة". وهناك دول بدأت تشحذ سكاكينها وتضاعف ميزانيّات الدفاع فيها في عمليّة تخلط بين الأمن والتجارة. ميزانيّة دفاع الولايات المتحدة الأميركيّة وحدها تساوي ميزانيّات عدد كبير من الدول. الصراعات المسلّحة ليست حكراً على أحد، وهذه هي المحصّلة دائماً، وأينما كان: قتلى وجرحى ومشوَّهون ومعذّبون ومساجين وألوف المغتصبات وملايين اللاجئين، وعدد لا يُستهان به من المتواطئين.

لا يوجد قدّيسون في عالم السلطة السياسيّة. لكن، هناك من الناس من لا يستطيع إلّا أن ينتمي إلى قطيع ويكون طرفاً في المبارزة الدمويّة، حتى وإن كان الخيار محصوراً في مجرمَين اثنين: هتلر أو ستالين. هناك أيضاً من لا يرى تبعات الحروب على المستوى الإنساني، ومن هؤلاء كتّاب ومثقّفون يؤيّدون الاغتيال السياسي إذ يغطّونه بصمتهم، أو بالدفاع المُعلَن عن الطرف الذي ارتكبه، أو هم يشيحون النظر عن المجازر التي تُرتكب في وضح النهار. وصلتني على هاتفي المحمول، قبل اجتياح مصنع آزوفستال، رسالة وزّعها كاتب عربي مقيم في فرنسا، وتتضمّن مقالاً عنوانه: "أكبر سرّ قالب الدنيا في حرب روسيا وأوكرانيا"، وجاء في مطلع المقال أنّ هناك "مبنى يقع تحت مصنع آزوفستال، يتضمّن مقرّاً سرّياً لمنظمة حلف الأطلسي لحماية الأسلحة البيولوجية، ضمن نظام محصّن وحماية عالية جداً، يتواجد فيه 240 عالماً أجنبياً من مختلف الجنسيات، إضافة إلى عدد من ضبّاط حلف الأطلسي وجنود من الفيلق الخامس الفرنسي، تحميهم كتيبة رينات أزوف، وهي أخطر كتيبة في جيش النازيين، جميعهم قتلة محترفون وقنّاصون مجرمون لا يستطيعون مغادرة أوكرانيا كونهم مطلوبين في أغلب دول العالم بجرائم عديدة، وهم 3000 مقاتل". تساءلتُ بعد قراءتي هذا المقال: كيف يمكن لكاتب معروف أن يوزّع هذا المقال قبل أن يتأكّد من صحّة المعلومات الواردة فيه؟ وهل هو فعلاً مقتنع بما أرسله إلينا؟

صحراء القتل تكشَّفت تماماً. المأدبة مفتوحة أمام الجميع، والوليمة من لحوم البشر. وما يطالعنا الآن ليس فيلماً سينمائياً مُتَخيَّلاً ولا مسلسلاً تلفزيونياً. إنه صورة العالم على حقيقته، وصورة الواقع الذي تتكرّر مآسيه من جيل الى آخر، وصورة الشرط الإنساني الذي، حين تستيقظ غرائز العنف، لا يُحتمَل ولا يُطاق. إنّها الحرب، وهل يُعقَل أن تتكرّر هذه المسرحيّة المتوحّشة إلى ما لا نهاية كأنّها قضاء وقَدَر؟