روبي غرامر

آخر أيام السفارة الأفغانية في واشنطن

14 حزيران 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

السفارة الأفغانية في واشنطن
في كانون الثاني 2002، بعد فترة قصيرة على سقوط أول حكومة تابعة لحركة "طالبان" في كابول، سافر الزعيم الأفغاني الموَقّت حامد كرزاي إلى واشنطن، واجتمع هناك مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن، وزار جماعات من الشتات الأفغاني، وحضر افتتاح السفارة الأفغانية التي أغلقت أبوابها منذ العام 1997. وقف كرزاي خارج السفارة حينها، في حي "كالوراما" الهادئ والراقي، واعتبر ذلك الافتتاح نقطة تحوّل في العلاقات الأميركية الأفغانية. كان عهد "طالبان" في أفغانستان قد ترافق مع حملات قمع وحشية، وعمليات إعدام علنية، وممارسات ظالمة بحق الأقليات والنساء، وتدمير المعالم الثقافية. لكن بعد افتتاح السفارة وتحوّل الولايات المتحدة إلى شريكة لأفغانستان، حان الوقت لإعادة بناء البلد وتحويله إلى ديمقراطية فاعلة ومستقرة.

بعد مرور عقدَين على تلك الأحداث، باتت السفارة الأفغانية تُمثّل حكومة غير موجودة. حين سيطرت "طالبان" على أفغانستان للمرة الأولى منذ عقدين، في شهر آب، لم توافق أي دول على إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع نظام "طالبان" الجديد. وفي شهر آذار الماضي، أصبحت الولايات المتحدة من أوائل البلدان الغربية التي تأمر بإغلاق السفارة الأفغانية.

أعلنت الحكومة الأميركية أنها أغلقت السفارة بالتشاور مع مسؤولين فيها، لكن يقول الدبلوماسي المرموق عبد الهادي نجرابي وعدد من زملائه إن هذا القرار صدر رغم اعتراضهم عليه. خسر نجرابي عمله الآن، علماً أنه كان يعتبر منصب نائب السفير الأفغاني في واشنطن أهم حلم في حياته بعد عمله لعشر سنوات في وزارة الخارجية الأفغانية.

بدأت معاملات إغلاق السفارة مع وصول رسالة من مصرف "سيتي بنك". في تشرين الأول 2021، بعد شهرين على عودة "طالبان" إلى كابول، أبلغ هذا البنك الأميركي البعثة الدبلوماسية الأفغانية في الولايات المتحدة بتجميد أصولها. كانت هذه الخطوة تهدف إلى الالتزام مسبقاً بأي عقوبات أميركية جديدة على أفغانستان في عهد "طالبان"، لكنها قطعت حبل نجاة مالي للسفارة في واشنطن وللقنصليات التي أغلقت أبوابها في شهر أيار في نيويورك ولوس أنجلوس أيضاً.

بعد وقف التمويل من "سيتي بنك"، وافق نجرابي والدبلوماسيون المتبقون والعاملون بدوام كامل على متابعة العمل بلا راتب. يقول نجرابي إن انشغالاتهم كانت فائقة، فقد ساعدوا الأفغان الذين يحتاجون إلى خدمات استشارية من السفارة لتقديم طلب لجوء أو نيل إقامة دائمة. عمل هذا الفريق حتى شهر آذار من دون تلقي أي راتب، فكان يتكل على حسابات التوفير المتناقصة أو على سخاء الأصدقاء والجيران أحياناً لإعالة عائلاتهم ودفع الفواتير والإيجار.

ثم وصلت رسالة ثانيــــة، في 11 آذار، من وزارة الخارجية الأميركية هذه المرة، فأبلغت الدبلوماسيين بأنها ستغلق السفارة في الساعة الثانية عشرة ظهراً من يوم 16 آذار وتستلم مسؤولياتها بعد تلك المرحلة.

امتدت الرسالة على أربع صفحات، وشملت عبارة رسمية توحي بأن إغلاق السفارة قرار مشترك: "الولايات المتحدة لا تزال تعطي مكانة مهمة للشعب الأفغاني وتتحمل مسؤولية حماية الأصول والأملاك الأفغانية نيابةً عنه".

وافقت السفارة على هذه الخطة رسمياً، لكن يقول نجرابي إن هذا القرار فُرِض عليهم: "لقد حاولنا كثيراً وقمنا بمفاوضات مطوّلة. طلبنا منهم أن يتركوا دبلوماسياً أو موظفاً واحداً أو اثنَين لمتابعة العمل مقابل تنحي جميع الدبلوماسيين الآخرين. لكنهم لم يوافقوا على هذا الطلب".

تعليقاً على الموضوع، قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية (رفض الإفصاح عن هويته) إن قرار إغلاق السفارة صدر بعد "مشاورات مكثفة مع عدد محدود من كبار القادة داخل البعثة الأفغانية على مر أشهر عدة".

أضاف المسؤول نفسه: "لم يكن ذلك الموقف يهدف إلى رفض القيادة السابقة أو قبول القيادة الراهنة. نحن لم نعترف بحركة "طالبان" كحاكمة لأفغانستان، ولا يزال موقفنا السياسي على حاله".

في ما يخص احتمال أن تستعمل الحكومة الأميركية أموالها الخاصة لإبقاء السفارة الأفغانية مفتوحة، قال المسؤول الأميركي إن الولايات المتحدة ليست معتادة على تمويل عمل البعثات الأجنبية فيها بطريقة مباشرة.

في غضون ذلك، تخبطت واشنطن للتعامل مع إجلاء كم هائل من الأفغان. بحلول شهر آذار، وصل حوالى 74 ألف أفغاني إلى الولايات المتحدة بفضل عملية إنقاذ جوي ضخمة وقد احتاجوا إلى معاملات للبقاء في البلد بما يتجاوز قرار الإفراج المشروط الموَقت لأسباب إنسانية.

لو لم يجمّد "سيتي بنك" الحسابات المصرفية الخاصة بالسفارة، يقول نجرابي إن العاملين هناك كانوا ليحصلوا على أموال كافية لمتابعة العمل طوال ستة أشهر إضافية على الأقل. حتى أنهم كانوا ليستمروا لفترة أطول لو ابتكروا نظاماً يسمح لهم بتلقي مقابل مالي للخدمات الاستشارية التي يحصل عليها المواطنون الأفغان. إنها ممارسة شائعة في عالم الخدمات الدبلوماسية في دول كثيرة، بما في ذلك الولايات المتحدة.

قد يُحال الأفغان في الولايات المتحدة الآن إلى السفارة في كندا، فقد تلقت هذه الأخيرة المساعدة من الحكومة الكندية للتعاون مع الحكومة الأميركية وما تبقى من الدبلوماسيين الأفغان لإبقاء السفارة مفتوحة. رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية الكندية، جايسون كانغ، التعليق على تفاصيل الترتيبات المعتمدة، لكنه أضاف قائلاً: "لا تزال كندا ملتزمة بشؤون أفغانستان والشعب الأفغاني، وسنتابع بذل قصارى جهدنا لدعمه".

يقول المسؤولون الأميركيون في المقابل إنهم يعملون على تسهيل المعاملات التي تسمح للاجئين الأفغان في الولايات المتحدة بتقديم طلبات لنيل التأشيرة وصفة اللجوء، حتى لو كانوا لا يحملون جميع الوثائق الرسمية المطلوبة لتقديم الطلب نظراً إلى الظروف القائمة. لكن يخشى نجرابي وزملاؤه أن يزداد الضغط على الأفغان في البلدين لأنهم مضطرون الآن للاتكال على سفارة واحدة تقع في أوتاوا لتلقي الخدمات الاستشارية.

في ما يخص السفارة الأفغانية في واشنطن، استلمت وزارة الخارجية الأميركية مهامها الآن، مثلما تولّت شؤون المراكز الدبلوماسية الإيرانية في الولايات المتحدة لأكثر من أربعين سنة، بعدما قطعت واشنطن علاقاتها مع طهران في العام 1979.

يقيم نجرابي الآن خارج واشنطن، في فرجينيا، مع زوجته وبناته الثلاث، لكنه يعيش فراغاً مؤلماً. يصل عدد الموظفين المتبقين في السفارة إلى 12 شخصاً تقريباً، وقد حافظ هؤلاء على صفتهم الدبلوماسية طوال ثلاثين يوماً بعد إغلاق السفارة، لكنهم مضطرون بعدها لتقديم طلب إقامة دائمة في الولايات المتحدة. رغم مرور بضعة أشهر، ينتظر معظم الدبلوماسيين حتى الآن رداً على طلبات التأشيرة أو تراخيص العمل.

لا يزال نجرابي غير متأكد من قبول طلبه لنيل إقامة دائمة في الولايات المتحدة. رغم وعود وزارة الخارجية الأميركية بدعم الدبلوماسيين الأفغان الراغبين في نيل رخصة إقامة في الولايات المتحدة، لم يكف نجرابي عن التردد إلى مكتب الخدمات الأميركية الخاصة بالجنسية والهجرة للاستفسار حول مصير معاملاته بعد رفض الطلب الأول. هو لن يتمكن من تأمين عمل جديد من دون إقامة دائمة أو رخصة عمل، لذا يتكل على مدخراته لإعالة عائلته، لكن ستزداد هذه المهمة صعوبة خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

قرر عدد من الدبلوماسيين الأفغان الانتقال إلى كندا. يقول دبلوماسي أفغاني سابق كان قد عمل في الوزارة لأكثر من عشر سنوات إنه بدأ يقدم طلبات للمشاركة في دورات تدريبية مدفوعة الأجر للمبتدئين بعد فشله في نيل وظيفة بدوام كامل. كذلك، أصبح وزير المالية الأفغاني السابق، خالد بايندا، سائقاً في شركة "أوبر" في واشنطن لإعالة نفسه. ويعمل ملحق دفاعي أفغاني سابق في السفارة كسائق توصيل لصالح شركة "أمازون" اليوم.

يعيش نجرابي ودبلوماسيان آخران تكلما مع صحيفة "فورين بوليسي" في أجواء آمنة داخل الولايات المتحدة بعد مرور أشهر على تلك الأحداث كلها، لكنهم يشعرون بدهشة عارمة إزاء انهيار بلدهم وموجة الجوع والقمع والمعاناة التي تجتاحه في الوقت الراهن. يقول نجرابي: "يصعب علينا أن نتابع العيش بشكلٍ طبيعي في ظل استمرار معاناة شعبنا ووطننا. لا يمكن أن نستمتع بالحياة أو راحة البال... لا يمكنني أن أشعر بالسعادة في أي مكان من العالم".

يفتقر 95% من الشعب الأفغاني إلى الأغذية الكافية، وأصبح 9 ملايين شخص على شفير المجاعة بعد وقف تدفّق الأموال الأميركية والأجنبية التي دعمت نظام الحُكم الأفغاني طوال عقدَين. حين نظّمت الأمم المتحدة مؤتمراً طارئاً للمانحين في أواخر شهر نيسان لجمع الأموال وتأمين مساعدات إنسانية عاجلة لأفغانستان، جمعت المنظمة مبلغاً أقل من هدفها النهائي (4.2 مليارات دولار) بمليارَي دولار.

يتساءل نجرابي حتى الآن عن السبب الذي منع الحكومة الأميركية من فعل المزيد لإبقاء السفارة مفتوحة، لا سيما بعد الجهود والأموال التي تكبّدتها الولايات المتحدة لمساعدة بلده في آخر عشرين سنة. في النهاية، يقول نجرابي: "كنتُ أتمنى أن تكون الولايات المتحدة آخر دولة تغلق السفارة، لا الأولى".


MISS 3