باسمة عطوي

انخفاض الاستهلاك المحلي مقابل زيادة الصادرات

الأزمة تقلب معادلة صناعة النبيذ اللبناني

20 حزيران 2022

02 : 00

كروم زحلة حيث عنب النبيذ الفاخر

ليس من قبيل المصادفة أن يرتبط ازدهار صناعة النبيذ في لبنان باستقرار الأوضاع الاقتصادية في العقدين الأخيرين، ثم تعود هذه الصناعة وتتراجع مع كل انتكاسة تصيب البلاد. هذا السيناريو يتكرر منذ ما قبل التاريخ وصولاً إلى أواخر القرن التاسع عشر حيث أعاد «الآباء اليسوعيون» الزخم لهذه الصناعة بعد كبوة عاشتها آنذاك. وفي الالفية الثانية إنضمت عشرات مصانع النبيذ إلى خارطة هذه الصناعة وخاصة في منطقة البترون وجبيل، وحاولت أن تجد لنفسها ميزات تفاضلية (إستعمال عنب عضوي من «CCPB» ومطابق لمعايير الاتحاد الأوروبي للمنتجات العضوية والاستعانة بخبراء أجانب)، لترسيخ هوية مختلفة عن نبيذ الشركات الكبرى والعريقة التي تزرع كرومها في تراب زحلة والبقاع ككل. لكن هذه المصانع جميعها مصابة حاليا بانتكاسة جراء الإنهيار الذي تعيشه البلاد والذي يؤثر على سبل العيش وأنماط الاستهلاك لدى اللبنانيين ومنها استهلاك النبيذ .

هذا السيناريو كان قد تكرر في حقبات سابقة وبعضها موغل في التاريخ، فالاكتشافات الأثرية في تل البراق كشفت عن بقايا محفوظة جيداً لمعصرة نبيذ مستخدمة منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل. وهي تعتبر أقدم معصرة نبيذ وجدت في المناطق الفينيقية. أي أن لبنان كان محطة مهمة لصناعة النبيذ وتصديره إلى دول المنطقة (مصر وروما واليونان)، وانطلاقا من ذلك يُمكن فهم معنى تكريس الرومان معبد باخوس في بعلبك إلهاً للخمر، وتحويل السيد المسيح الماء إلى خمر في بلدة قانا الجنوبية. لكن هذه الصناعة أُصيبت بخضات متعددة منها في فترة الحكم العثماني حيث سُمح بإنتاج النبيذ لأغراض دينية فقط، ثم عادت هذه الصناعة إلى الازدهار في العام 1857، حيث جلب المبشرون اليسوعيون كروماً جديدة إلى سهل البقاع وطوّروا تقنيات مختلفة لإنتاج العنب والنبيذ، مما أسس لانتشار هذه الصناعة في المنطقة حتى اليوم.



ظافر شاوي



التصدير هو باب الصمود

بحسب الارقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصناعة، في لبنان حاليا 56 مصنعاً للنبيذ بين البقاع والبترون وجبيل، والانتاج نحو 10 ملايين قنينة نبيذ في العام (سعة 75 سنتليتر). وهي تتنوع بين النبيذ الاحمر الذي يصنع من العنب الأسود والذي يخمّر مع قشرته، والنبيذ الأبيض الذي يصنع من العنب الأسود ولكن من دون قشرته، والنبيذ الزهري وهو عبارة عن خليط بين النبيذ الأبيض والأحمر. هذه المصانع جميعها تُحاول الاستمرار بشق النفس، وبالإعتماد أكثر على التصدير إلى الخارج، وبتنظيم نشاطات سياحية وفتح أبوابها أمام اللبنانيين لتعريفهم بهذه الصناعة ضمن ما يُعرف «بسياحة النبيذ»، كما يؤكد رئيس الاتحاد اللبناني للكرمة والنبيذ ورئيس مجلس إدارة شركة «شاتو كسارة» ظافر شاوي لـ»نداء الوطن»، مُشدداً على أن «الازمة ألحقت ضرراً كبيراً بصناعة النبيذ في لبنان، لأنه مهما ارتفعت نسبة التصدير إلى الخارج يبقى أن تراجع استهلاك السوق المحلي يُلحق خسائر كبيرة بمصانع النبيذ لأن قسماً كبيراً من إنتاجها يُباع في السوق المحلي. بحيث بلغت نسبة التراجع في المبيعات الداخلية لدى المصانع الكبيرة نحو 50 بالمئة». ويشير إلى أنه «لا يمكننا رفع الأسعار للتعويض عن الخسائر لأن القوة الشرائية لدى معظم الشعب اللبناني تراجعت بشكل كبير ولم يعد يمكنهم شراء النبيذ كما كانت الحال قبل الازمة».

كلفة «habillage» مرتفعة

يشرح شاوي التحديات الاخرى التي تعيشها صناعة النبيذ، منها أن «كل مستلزمات صناعة النبيذ أي القنينة والفلينة والمعدن والاتيكيت الذي يحيط بالقنينة أو ما يصطلح على تسميته «habillage de bouteille» مستورد من الخارج. وهذه المستلزمات باتت كلفتها عالية بفعل ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء. أما المواد الاولية أي العنب فهي من إنتاج لبنان ولا يحق للمصانع الاستيراد من الخارج بل استعمال الانتاج المحلي»، مشدداً على أنه «لا حل إلا بزيادة التصدير إلى الخارج لتعويض الخسائر وتغطية التكاليف. وما يساعد على ذلك أن النبيذ اللبناني هو من حيث الجودة جيد جداً ويلقى تقديراً كبيراً من المغتربين والمنتشرين اللبنانيين».

ويوضح أن «ذلك لا يعني أن النبيد اللبناني لا يلقى منافسة عالية في السوقين الأوروبية والاميركية، فهو نقطة في بحر عالم النبيذ، خصوصا أن الانتاج اللبناني لا يتعدى 10 ملايين قنينة، وهو رقم صغير مقارنة مع إنتاج الدول الاخرى. والكمية التي تُصدر من لبنان لا تتعدى 6 ملايين قنينة مقابل 4 ملايين للسوق المحلي. اما قبل الازمة فكانت الارقام معاكسة أي 4 ملايين للتصدير وأكثر من 6 ملايين قنينة للداخل اللبناني».

كلفة المزارع عالية

يلفت شاوي إلى أن «مالكي الاراضي الزراعية الذين يزرعون الكرمة لصناعة النبيذ يعانون أيضا من التكاليف العالية لإنتاج محاصيلهم ويطالبون ببيعها بالفريش دولار أو بأسعار عالية. وهذا يعني أن مهمتنا صعبة جداً، ولكن لا شك ان هذه الصناعة لا تزال قادرة على الاستمرار بفضل التصدير إلى الخارج»، مشيراً إلى أن «سياحة النبيذ» التي كانت تُنظم داخل المصانع لتعريف السياح والمغتربين على النبيذ اللبناني كانت مجدية قبل الازمة، لكن حالياً مع تراجع المستوى المعيشي للمواطنين وزيادة أسعار المحروقات بالاضافة إلى جائحة كورونا اصبح تنظيم هذه المناسبات غير ذي جدوى كبيرة».

المقارنة غير عادلة

يشرح شاوي أنه «في السنوات الاخيرة زاد عدد المصانع بشكل هائل بسبب توجه عدد كبير من المزارعين إلى زراعة العنب المخصص لصناعة النبيذ، لأن الارباح كانت مجدية للجميع». وتمنى «أن تعود الامور إلى ما كانت عليه قبل الازمة»، مشدداً على أنه «لا يمكن مقارنة النبيذ اللبناني بالنبيذ الفرنسي، لأن هناك نبيذاً فرنسياً إستثنائياً مصنوعا في بيوت عريقة، ونحن لا نستطيع منافسته. ولكن يمكن أن ننافس النبيذ الفرنسي والايطالي الذي يباع بنفس سعر النبيذ اللبناني أي 6 دولارات للقنينة، لأن نوعية وجودة نبيذنا أفضل مقارنة بالسعر لأن المناخ والتربة اللبنانية أفضل من مناخ وتُربة دول أوروبية كبيرة منتجة للنبيذ».



لويس لحود


جهود تسويقية وتقنية

على ضفة الجهود الرسمية المبذولة لدعم هذه الصناعة يشرح مدير عام وزارة الزراعة لويس لحود لـ»نداء الوطن» أن «صناعة النبيذ إزدهرت في السنوات الاخيرة بفضل جهود الاستثمار لمنتجي النبيذ وإحترامهم للنوعية والمعايير والمواصفات، والتزامهم بالشروط الموضوعة من قبل الدول التي يتم التصدير اليها»، شارحاً أن «وزارة الزراعة ضمن إطار دعم الصادرات الزراعية إلى الاسواق الخارجية تقوم بالتواصل مع الجاليات اللبنانية والبعثات والسفارات والاسواق الخارجية مما يزيد من كمية الانتاج المحلي ويرفع نسبة التصدير إلى الاسواق الخارجية، وفي الوقت نفسه تزداد المساحات المزروعة بعنب التصنيع وتتحرك العجلة الاقتصادية داخليا وتُخلق فرص عمل جديدة».



مريم عيد



الوزارة تدعم المزارعين أيضاً

من الناحية التقنية تشرح رئيسة مصلحة الصناعات الغذائية في وزارة الزراعة المهندسة مريم عيد لـ»نداء الوطن» أن «عدد مصانع النبيذ المسجلة رسمياً يتخطى الـ 50 مصنعا. وهذا الرقم سببه إثبات النبيذ اللبناني منافسته من حيث النوعية، للنبيذ الأجنبي بما فيه الفرنسي حيث يصدّر لبنان 40 بالمئة من انتاجه»، لافتة إلى «التحديات التي تواجه هذه الصناعة حاليا وتُلخص بتأمين المواد الأولية والمُساعدة بما فيه الاوعية والفلين والشتول نظرا لكونها تستورد من الخارج، وتصريف الإنتاج لا سيما في ظل إنخفاض القدرة الشرائية للمستهلك اللبناني واستمرارية المختبرات للقيام بالتحاليل بالمستوى المطلوب».

تضيف: «سعت وزارة الزراعة ولا تزال الى دعم المنتجين من خلال تأمين الشتول والأدوية والاسمدة للمزارعين والترويج للإنتاج اللبناني في الداخل والخارج. إضافة الى تنظيم القطاع بهدف حمايته وتطويره والذي انتج تأسيس المعهد الوطني للكرمة والنبيذ».

وتختم:»تجدر الإشارة الى ان لبنان من أولى الدول التي انضمت الى عضوية المنظمة الدولية للكرمة والنبيذ بما يساهم في زيادة الثقة بالمنتج اللبناني ووضعه في المصاف العالمية».

قطاع واعد وخطة تطوير

تؤكد مصادر وزارة الصناعة أن قطاع صناعة النبيذ واعد، ويجذب المستثمرين الشباب في مختلف المناطق اللبنانية، وأن التوظيفات تجرى على نطاق واسع في مصانع انتاج النبيذ الحديثة والتقليدية.

وتوضح أن سياحة النبيذ باتت أيضاً متوافرة في الشمال والبقاع وجزين والمتن. حيث ينظّم أصحاب الخمّارات جولات في الأقبية والكروم ويعرضون أفلاماً توثيقية عن صناعة النبيذ...

ووضع المعهد الوطني للكرمة والنبيذ خطة 2022-2024 تتضمّن: بناء قاعدة بيانات متينة ومحدثة، معرفة واقع قطاع الكرمة المعدّة لانتاج النبيذ، تحديد موقع النبيذ اللبناني على المستويين الداخلي والخارجي وفتح أسواق جديدة أمام النبيذ اللبناني، سبل اعتماد قواعد المنشأ والتسميات الجغرافية، اجراء مسح ميداني احصائي حول مناطق انتشار زراعة الكرمة وخصائصها...

إيطاليا وفرنسا وإسبانيا في المقدمة

ظل حجم مزارع الكروم في العالم مستقراً لمدة عقدين. تبلغ مساحتها 7.3 ملايين هكتار ، يقع نصفها تقريباً (46%) في أوروبا. بينما لا تزال إسبانيا تمتلك أكبر المناطق (13%) ، تتبعها مزارع فرنسا عن كثب والتي تبلغ مساحتها 798000 هكتار تمثل 11% من مزارع الكروم في العالم.

في ما يتعلق بالإنتاج الكلي، تبلغ تقديرات المنظمة العالمية للكرمة والنبيذ 260 مليون هكتوليتر للعام 2021 ، بانخفاض طفيف مقارنة بالعام السابق، وعلى أي حال أقل من المتوسط العام في مدى 3 سنوات سابقة. ويرجع هذا بشكل خاص إلى الانخفاض الكبير في الإنتاج في دول الاتحاد الأوروبي التي عانت من مشاكل المناخ. ظاهرة أكثر ضخامة من المستويات القياسية للإنتاج في نصف الكرة الجنوبي حيث، على العكس من ذلك، كانت الظروف المناخية ممتازة.

لا تزال إيطاليا المنتج الرائد في العالم (50.2 مليون هكتوليتر أو 19%) متقدّمة على فرنسا (37.6 مليون هكتوليتر أو 14%) وإسبانيا (35.3 مليون هكتوليتر أو 14%) وهي المراكز الثلاثة الأولى التي لم تتغير لعدة سنوات، والتي تمثل ما يقرب من نصف الإنتاج العالمي. تليها الولايات المتحدة (9%)، والأرجنتين، وأستراليا، وشيلي (بين 3 و5%).


MISS 3