ريتا ابراهيم فريد

نحن الذين قُتِل آباؤنا... ثورتنا لن تُقتل

15 تشرين الثاني 2019

02 : 00

هوذا رحيل آخر يقتلنا معه ويدمي ما في داخلنا من حياة. ها هي دماء أخرى تسيل جنبا الى جنب مع الموت اليومي الذي يتربّص بنا في كل لحظة.
فيما كان الوطن يخطو أولى خطواته نحو النهوض، ارتفع علاء أبو فخر شهيدا للثورة بعد حسين العطار.
مشهد الموت أماتنا معه. صرخات زوجته وابنه اخترقت قلوبنا جميعاً، خضّت مضاجعنا، قطعت أنفاسنا... عن "الشعب" فقط أتحدث.
من أين نأتي بالتعزية لأطفال فقدوا سندهم الى الأبد؟ أين نهرب من نظرات الغضب في عيني نجله اللتين لم تعودا تريان سوى غدٍ محاصرٍ بالمجهول؟
فيما سار علاء أبو فخر مع بقية الشهداء الى دنيا الحق، اعتدنا نحن الإدمان على القلق الدائم حتى بات من يومياتنا.
من طبّق علينا هذه العقوبة؟ لِمَ علينا أن نعيش في وطن نُحرم فيه من آبائنا بلحظة؟
لم أعرف والدي يوماً. إذ توفي قبل أشهر قليلة من ولادتي حين كانت والدتي حاملاً بي. قتلوه أمام المنزل برصاصة الغدر نفسها التي قتلت علاء أبو فخر.
تختلف الأسباب بالطبع، لكن الطريقة تبقى نفسها والوجع الذي تبع الاغتيال يبقى نفسه. ألم اليتم الذي رافقني سيرافق أبناء الشهيد علاء. لا مفرّ من كل هذا الحزن الذي يُزرع الى الأبد في عيني كل طفل خسر والده بهذه الطريقة. أن تعيش طفولتك مع الانتظار، على أمل استحضار فرح غائب. أن تنتظر يومياً عودة والدك من عمله الى المنزل، بعينين مسمّرتين نحو الباب، فلا تطرقه إلا الخيبة.
أن تنتظر أعجوبة تعيده إليك لساعة واحدة فقط، علّك تفرغ فوق صدره كل أحزانك، علّك تستمدّ منه مخزوناً كافياً من الأمان والقوة تستنهض بهما أيامك الباقية الى أن يحين موعد اللقاء الأبدي في السماء. لكن الساعات تمرّ، وتليها الأيام والأشهر والسنوات، ويتحوّل الانتظار الى عادة روتينية ملتصقة بصور وحكايات عنه تزيدك لوعة وحسرة.
أن تنتظر رؤيته لبضع لحظات في المنام، علّك تستحضر القوة للفظ كلمة "بابا"، بكل ما تحمله من دفء وأمان. فيختنق صوتك وتحترق حنجرتك وتبقى هذه الأحرف أسيرة مكبّلة داخل كل ما تعانيه من ألم.
أن تنتظر الإجابة على ألف سؤال وسؤال، فلا تلقى إلا صدى مدوياً للمزيد من الحيرة... علمونا منذ صغرنا أن الوطن يستحق التضحية.
خذ أيها الوطن كل تضحياتنا. خذ جرحنا الذي لن يندمل. خذ صرخاتنا وأوجاعنا. خذ دماء علاء أبو فخر ودماء حسين العطار ودماء كل الشهداء. خذ أيضا دماءنا.. أمس واليوم وغدا : نحن الأولاد الذين قُتِل آباؤهم، نحن الذين وُلدت بداخلنا ثورة على كل أنواع الظلم، وثورتنا لن تُقتل.

MISS 3