بشارة شربل

لا مفر من اللامركزية... و"بلدية بيروت" ليست مُنزَلة

19 تموز 2022

02 : 00

ليس سيئاً على الإطلاق الجدل الدائر حول تفريع بلدية العاصمة، خصوصاً إذا أفضى الى نتيجة ملموسة بعيداً عن الافكار "الوحدوية" البائدة أو"الانعزالية" العقيمة. فجدل اللامركزية خاضته دول كثيرة تضم تنوعاََ طائفياً أو إتنياً، أو فيها مجرد مصلحة مناطقية أملتها قناعة بأن الوحدات المحلية الصغيرة أنجح من الكبيرة، وبأن محاسبة المقصرين فيها أسهل وأفعل.

بدا موضوع تقسيم بلدية بيروت في الأيام الأخيرة مناسبة للاستثمار الطائفي. مسيحيو "الأولى" يرفضون دفع "الجزية"، ومسلمو"الثانية" يخشون على عفاف "سيدة العواصم" العروبية من الانتهاك، في حين أن طرح تجزئتها الى بلديتين أو أكثر ينسجم حتماً مع ما أثبتته تجارب مدن عظيمة، خصوصا اذا كان أحد الأهداف فك "تداخل" طائفي من النوع اللبناني، نجم عنه شعور بالغبن والتمييز، في غياب قيادة سنية بحجم الرئيس رفيق الحريري قادرة على الاستيعاب وتغطية العيوب بشتى الأساليب.

لو كانت بلدية بيروت ناجحة وذات ادارة عادلة لما طُرح تقسيمها. هذا أمر بديهي، فكيف اذا كانت الألسن تلوك سمعتها، والوقائع تثبت ضعف انتاجيتها، وصارت مضرب مثل في البطالة المقنعة والتلزيمات المشبوهة والفساد الذي حرم كل شوارعها من أي انماء قبل أن يكون غير متوازن، وقبل جائحة كورونا وتفجير مرفأ العاصمة وقسم من شقها الشرقي المسيحي؟.

اسوأ ما في الجدل رفضُ تسمية الأمور بأسمائها بحجة المواطنية الجامعة ووحدة بيروت "الوهمية"، فيما حان الوقت للاعتراف برغبة أي جماعة طائفية أو مذهبية أو مناطقية في ادارة شؤونها الادارية والمالية على أوسع نطاق في العاصمة وكل لبنان، ليس لأن "اتفاق الطائف" نصَّ على ذلك فحسب، بل لأن تجارب "العيش المشترك" المُرة بكل فصولها السياسية والأمنية والاقتصادية على مدى مئة عام توجب تفكيراً جديداً يسقط "تابوهات" ليؤسس لنمط جديد من التعايش ضمن دولة جامعة للتنوع ورافعة لراية الحياد، بعدما "كفى الله المؤمنين شر القتال".

يحق لبيروت أن تتخلص من بلديتها الرديئة سواء بتقسيمها الى بلديتين او ثلاث أو اربع، غير أن الاصلاح لا يكون بمشروع قانون يقتصر على الهمِّ الطائفي المسيحي. فالدول المحترمة تشرِّع للحاضر والمستقبل والتعاون الفعَّال، وتُشرك مثلاً في انتخابات بلدياتها سكان نطاقها الجغرافي والاداري كلهم وليس الناخبين فيها فقط. فهؤلاء يدفعون الرسوم والضرائب ويحق لهم بمن يمثل توجهاتهم في مجالسها. وهنا لا يحق للحرصاء على "المواطنية الجامعة" و"الوحدة المقدسة" الخشيةَ من طائفة أو مذهب يشارك "الأصليين" خياراتهم البلدية. وبعبارة أوضح لا يجوز لسُنَّة بيروت المتمسكين بوحدة البلدية الاعتراض على ارتفاع نسبة المقترعين الشيعة الوافدين اليها، ولا لمسيحيي "الأولى" المنادين بتقسيمها الخوفَ من أصوات مهمَّشيها القادمين من الأطراف لخدمتها.

فلتُقسَّم بلدية بيروت، ليس لحل الإشكالات الطائفية والمناطقية ورفع الهيمنة فحسب، بل ضمن مشروع إصلاح يأخذ في الاعتبار كل أبعاد اللامركزية الحضارية، عسى أن تؤسس تجربة العاصمة لنهضة تعمم على كل المدن والمناطق اللبنانية.


MISS 3