نجيب جورج عوض

قمّة جدّة ونهاية الجيوستراتيجيا الأميركية القديمة

20 تموز 2022

02 : 01

قادة الدول المشاركة في قمّة جدّة (أ ف ب)

عُرفَ عن هنري كيسنجر أنه كان يقول إنَّ السياسة لا تتبع الواقع وإنما يتمُّ تطوير ولَوي الواقع كي يتناسب مع السياسة المسبقة الصنع. اعتمدت مراكز صنع القرار الأميركية هذا المعيار الابستمولوجي مقياساً ثابتاً مع تبدُّل هوية وشخصية وأسلوب عمل من يجلس في المكتب البيضوي وفريق عمله وإدارته، وتأرجُح الإدارات الأميركية ما بين جمهوري وديموقراطي. ولعلّ من أشهر التمظهُرات العملانية لتلك الذهنية هو استراتيجية «الفوضى الخلاقة» في منطقة الشرق الأوسط خلال فترتي تسعينات القرن الماضي والعقد الأوّل من القرن الحالي. ولكن يبقى التمظهر الأكثر رسوخاً لتلك الذهنية الجيوسياسية هي استراتيجية «الإدارة عن بُعد» (by-proxy) والتي فرضها باراك أوباما.

قرّرت إدارة أوباما أن أميركا ستخرج من الشرق الأوسط عسكريّاً وسياسيّاً وجغرافيّاً كي تتولّى إدارة مصالحها فيه بالوكالة أو بالتكليف والتعهيد. تأثرَ هذا القرار بموقف شخصي استعلائي وتبخيسي حمله أوباما تجاه العرب ورغبته بأن يُعهِّدَ مصالح أميركا في العالم العربي إلى مُتعهِّدٍ آخر هو الإيراني. بعد أوباما، جاءت إدارة ترامب وتابعت نفس المنطق الجيوستراتيجي للإدارة السابقة. الفرق بين الطرفَيْن كان في أن إدارة ترامب أرادت تلزيم ملفات أميركا في المنطقة للروسي. وكي ينجح تطبيق تلك الجيوستراتيجية، تمَّ العمل على إعادة تشكيل ظروف وأوضاع ومعطيات المنطقة على الأرض كي تتلاءم مع السياسة المسبقة الإعداد، والتي كانت أهم أدواتها «الربيع العربي» والبدء بعملية تفكيك دول المنطقة وإنهاء خريطة سايكس - بيكو وإنهاء فكرة «العالم العربي» برمّتها.

ما شهدناه في منطقتنا كان تطبيقاً لمنطق لوي الظروف وتشكيلها كي تتلاءم مع سياسة مسبقة الصنع. ولكن، نسيَ صانع القرارات الأميركي أنَّ تلك الأرض فيها بشرٌ أحياء عندهم عقول وإرادة ووعي ويستطيعون أن يقوموا بأفعال وردود أفعال قد لا يُمكن لأحد التحكّم بها وتطويعها وإدارتها بالريموت كونترول. قامت المجاميع البشرية في العالم العربي بإثبات خطأ أوباما وإدارته وبيَّنَت بالأعمال أنها قادرة على رفض عملية لوي وتحوير الظروف والأوضاع قسراً. هذا ما تقوله لنا حالات فشل الإسلام السياسي المتكرّرة، وانهيار فكرتي لبنان وسوريا بحد ذاتهما، والحروب الدامية في اليمن والعراق، واتجاه دول المنطقة العربية نحو التطبيع مع إسرائيل، والانفتاح العربي المتنامي على شراكة مع روسيا والصين.

والحال أنَّ المنطق الجيوستراتيجي الكسنجري (الهيغلي بطبيعته الفلسفية) قد بدأ يكشف علامات فشله الذريع. فشلَ الأميركي ومديرو ملفاته، وعلى رأسهم الإيراني، في خلق الظروف ولوي الأوضاع بطريقةٍ تُساعد الأميركي على الحصول على الربح المطلوب من أسهمه في الشرق الأوسط. فالإدارة الناجحة لتلك الأسهم وضمان تأمينها المداخيل المادية والعينية والاقتصادية المتوقَّعَة يتطلَّبان أوضاعاً وظروفاً وحالات ووجوداً على الأرض، تختلف كلّياً عن كلّ ما عمل وكلاء الأميركي على خلقه وفرضهِ ولوي عنق المنطقة لأجله.

علينا أن نقرأ زيارة جو بايدن الأخيرة إلى المنطقة العربية ولقاءه في قمة مع القادة العرب في إطار الارهاصات الجيوسياسية في الأعلى. جاء بايدن لأنَّ أميركا اكتشفت فشل متعهّدي ملفاتها في المنطقة. لم تعد أميركا قادرة على تجاهل أن العرب والإسرائيليين هم على وشك أن يُصبحوا حلفاء المستقبل القريب جدّاً. لم تعد قادرة على التقليل من تفضيل العرب لدورٍ روسي على دورٍ إيراني في إدارة المنطقة.

جاء جو بايدن وفكره منشغلٌ بتراجع أسهم الديموقراطيين في الداخل الأميركي بسبب ضعفه وإدارته العاجزة والعجوز. ولكنّه جاء أيضاً ليعترف للمرّة الأولى أمام العرب بأنَّ السياسة التي اتبعتها أميركا حيال المنطقة في نصف القرن الماضي كانت خاطئة وأنَّ المنطق المُتبَّع لم يُعِد تشكيل الظروف كما أرادت أميركا أن تفصِّلها على قياس قميصها الجيوستراتيجي. أعلن بادين بهذا نهاية عهد باراك أوباما وأنَّ هناك تغييراً بنيوياً بدأ يلوح في أفق المنطقة البعيد. إعترف بأنَّ أميركا أخطأت، معلناً بهذا فشلاً لإدارةٍ كان هو يوماً أحد أهمّ أفرادها.

المهمّ في المحصلة أن يلتقط العرب تلك اللحظة التاريخية النادرة في تاريخ السياسة الأميركية الخارجية. المهمّ أن يُحافظوا على أوراق القوّة التي في أيديهم. التطبيع مع إسرائيل بات ورقة قوّة لا مفرّ منها. وورقة تنويع مروحة الخيارات التحالفية مع دول أخرى فاعلة في المشهد الدولي الاقتصادي والمالي والديبلوماسي، باتت أكثر فاعلية من أي وقتٍ مضى.

أمّا الورقة الأقوى والأفعَل، برأيي، فهي أن يبدأ العرب جدّياً بربيع عربي داخلي محلّي الصنع وأن يعملوا على إعادة خلق دولٍ ديموقراطية وتعددية ومدنية وعادلة وعلمانية، بل وفدرالية أو كونفدرالية جديدة. ما لم يبدأ العرب بأخذ تلك الورقة بعين الاعتبار، لن يتمكّنوا يوماً من إقناع أميركا وباقي ملّاك أسهم الشرق الأوسط بأنهم وحدهم القادرون على إدارة ملفات ملّاك الأسهم المذكورين في العالم العربي ولا أحد سواهم، لا إيراني ولا تركي ولا روسي... ولا حتّى إسرائيلي.







MISS 3