نوال نصر

العيد في ساحة الشهداء

هذه هي الأفواج الشعبية التي تُحيي الإستقلال

21 تشرين الثاني 2019

02 : 00

إنتظروا الإستقلال في ساحة الشهداء (رمزي الحاج)
بين مواجهة ومواجهة استراحة، وبين ساحة وساحة هناك "أمّ الساحات" ساحة الشهداء، وبين اليوم ويوم غد يستعدّ "الثوار" الى أوّل "يوم استقلال" في زمن الثورة.



الشباب استيقظوا باكراً جداً. هكذا هم منذ 34 يوماً. ينامون آخر الليل ويستيقظون قبل طلوع الفجر. نظفوا، شربوا القهوة، تناولوا الفطور وينتظرون في خيمٍ مشلوحة تتناثر في كلِ مكان. بقايا شموع كثيرة سالت أمام صور ثلاثة شبان، ثوار، باتوا في 34 يوماً في دنيا الحقّ. صور تجعل عيني المارّ تلمعان حتى ولو كان قلبه من حجر.

الساحة منسّقة. والخيمُ من كل القياسات والألوان. وصبيّة من الحراك تحاول استيعاب امرأة عجوز مرددة: "كلنا بدنا نتحمّل بعضنا". ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه سُيّج بقضبانٍ حديدية وبطلب: إحتراماً لحرمة أضرحة الشهداء نرجو عدم الدخول. أطفالٌ يتزحلقون قرب الضريح على طريق مخصّصة لعربات المقعدين. تمثال الشهداء يطلّ على يافطة تعلوها صورة قائد الجيش جوزيف عون وتُذيلها عبارة: اليد التي تمتدّ نحو الشعب اللبناني ستُقطع.

هدوءٌ ملفت. حمامٌ يغطّ ويطير بحرّية. خيمٌ تُعرّف عن نفسِها: خيمة التجمع النسائي الديموقراطي اللبناني. خيمة نقابة أطباء لبنان المخطوفة من غطاس خوري الى شرف أبو شرف. خيمة إتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة. خيمة تجمع أساتذة الجامعات. خيمة مخفر الضمير. عبارة "مخفر الضمير" تلفت. فماذا يعني أن يكون للضمير مخفر؟ ندخل الى الخيمة. ندخل الى صندوق يُشبه العازل زمن الانتخابات. ونقرأ عبارة: "بلِّش بنفسك... قبل السياسيين... شارك أسرارك السودا". هناك، في الصندوق، عُلقت اعترافات: خنت مبادئي. كبّيت كلينكس عالأرض البارحة. استخدمت نفوذ أهلي لأجد وظيفة. خنت زوجتي. إعترافات إعترافات. هذا المخفر فكرة صبيّة أتت من أوروبا.

في خيمةٍ مجاورة يجلس عدد من الشباب، يتناولون الفطور، ويرتّبون الأحداث والتطورات ويتناقشون في التوقعات. نهاد سنو يبدو مخضرماً أكثر من الباقين. فهل هو مسؤول كي لا نقول انه قائد؟ هو كان يتولى مسؤولية شؤون الإغتراب في تيار المستقبل. استقال. وهو اليوم "ثائرٌ" على كلّ الفساد. نهاد والشباب يتحدثون عن انتشار دائم لأكثر من 250 شاباً في ساحتي الشهداء ورياض الصلح. هؤلاء باتوا مثل الأخوة. يأكلون ويشربون وينامون ويستيقظون في الساحتين. والوجبات تصلهم يومياً عبر ناشطة في الحراك تدعى باولا ربيز. هي إمرأة رائعة تؤمن للشباب كلّ ما قد يحتاجون إليه من حاجيات. دور النساء في الحراك كبير. والدة شاب يشارك في الحراك اتفقت مع أربعة أفران في منطقة الأشرفية كي تُحضّر مئات المناقيش صبيحة كل يوم الى الشباب.

الشباب يأكلون "الدبكة". آخرون يتناولون بسكويت غندور مع راحة الحلقوم. الإستهلاك وطني مئة في المئة. والإستقلال سيكون، بدءاً من 22 تشرين الثاني 2019، وطنياً شعبياً عارماً. يرددون هذا وهم يُنسقون بأصواتٍ خافتة تحضيراً لاستقبال ثلاث طائرات يُنتظر وصولها اليوم، بعيد الساعة الرابعة، الى مطار رفيق الحريري الدولي للمشاركة في عيد الإستقلال الشعبي. ثمة طائرة آتية من باريس. لكن، من دفع ثمن تذاكر سفر الشباب والصبايا؟ يجيب نهاد سنو: نحن سياحياً في موسم كساد، لسنا في الذروة، وأسعار بطاقات السفر منخفضة جداً. والشباب يريدون أن يتشاركوا، في شكلٍ ما، في صناعة الإستقلال الجديد عن طاقم سياسي أرهق البلاد والعباد. سيُشارك الشباب اللبناني في باريس الذين هتفوا باسمِ لبنان الذي يريدون قبل أيام جنب برج إيفل الفرنسي. الشباب متحمسون أكثر بكثير مما يظن الكثيرون.

اليوم، ستبدأ تدريبات عيد الإستقلال في ساحتي الشهداء ورياض الصلح. وغداً سيشهدُ العالم مشهدية راقية رائعة يعبّر بها "الثوار"، بمشهدية حيّة، عن تطلعاتهم الى غد مختلف. ماذا يعني هذا الكلام؟ ماذا قد يتضمن يوم الإستقلال، في ذكراه السادسة والسبعين، من مشاهد؟ يتحدث الشباب عن استعراض شعبي سيُقام في الساحة تُشارك فيه كلّ الألوية الشعبية بعتادِها. النساء اللواتي يطهين الأطعمة الى الشباب سيُشاركن بالملعقة وغطاء الطنجرة. هؤلاء هنّ لواء دعم الجيش الشعبي. وستشارك فرقة من الفنانين. الأطباء سيُشاركون حاملين سماعاتهم. المهندسون سيشاركون حاملين عتادهم. طلاب المدارس سيشاركون حاملين أقلامهم. المحامون سيشاركون حاملين كتب الدستور. سيُشارك أكثر من 4000 ثائر وثائرة في عرض الإستقلال الشعبي. وستُوزّع الورود، باسم الشعب، على العسكريين في الثكنات وعلى الطرقات. وسيُصار الى زرع مئة ألف شجرة في كلِ لبنان.

34 يوماً. وها هو يوم عيد الإستقلال يأتي غداً. الشباب لم يتعبوا. وصور الشهداء تزيدهم عناداً. لارا علاء أبو فخر أرسلت، قبل يومين، صواني اللحم بالعجين مع سطول اللبن الى المتظاهرين. أكلوا جميعهم عن راحة نفس الشهيد.

نتابع في الأرجاء. "أوع" جمعية اتخذت لها مرقداً في الساحة. المرصد الشعبي لمحاربة الفساد هنا. نمشي في اتجاه السراي فتلفتنا يافطة: الجمهورية الثالثة. ها نحن نعبر الى جمهورية جديدة. خيمة انتفاضة 17 أوكتوبر عند أقدام تمثال رياض الصلح. هي خيمة الحزب الشيوعي لكن بإسمٍ آخر. والدكتور خليل سليم، مسؤول قيادة بيروت وضواحيها في الحزب الإشتراكي، يحكي عن تحذير الشيوعيين المستمرّ من السياسات المعتمدة التي لا تبني وطناً ويقول: طالبنا بالإنقاذ. عبثاً. رفعنا شعار نحو المواجهة كي لا نقع وننهار. وها نحن الآن في قلب الإنهيار. نخوض معركة ضد السلطة التي حكمتنا منذ ثلاثين عاماً، ونجحنا في إسقاط الحكومة، ونريد الآن تشكيل حكومة موقتة انتقالية لستة أشهر، من خارج السلطات التي حكمت ثلاثين عاماً. ويستطرد: فضلو خوري، رئيس الجامعة الأميركية، أعطى سعد الحريري خمسين إسماً من التكنوقراطيين خريجي الجامعة الأميركية وقال له "اختر على العمياني". لكننا نعرف ان ولا واحد من كل هؤلاء سيكون غير مرتبط سياسياً. نحن نريد ان يفرز الحراك القيادات المقبلة.

سؤالٌ يطرح، لماذا الحزب الشيوعي موجود في الساحات في وقتٍ يصرّ الثوار أن لا يتمثلوا بأحزاب وتيارات؟ يجيب: نحن كنا أوّل من قال أن هذا البلد ذاهب الى الإنهيار. وأطلّ محمد شقير ليقول: هؤلاء اليساريون والشيوعيون يريدون ضرب هذا البلد واقتصاد هذا البلد.

نحن سنظل هنا وسنطالب بحكومة موقتة لها صلاحيات استثنائية، تصدر مراسيم إشتراعية لا تتطلب موافقة المجلس النيابي، على أن نذهب الى قانون انتخاب خارج القيد الطائفي كما تقول المادة 22 من الدستور اللبناني لإجراء انتخابات على أساس لبنان دائرة واحدة خارج القيد الطائفي.

وكيف سيُشارك الحزب الشيوعي غداً في عيد الإستقلال؟ نطالب باستعراض يبدأ من القصر الجمهوري وينتهي هنا. هذا هو العرض الشعبي الذي نريده. هذا اقتراح. سنعرضه اليوم على كلّ المشاركين في الساحة. ولن نقبل بعد اليوم ان يمشي الجنود وامامهم عنزة!

خيمة الدعم النفسي متوفرة في الساحة يومياً. وأدبيات وأهداف وقوانين الثورة حددت: ممنوع الترويج لأيّ سياسي. ممنوع أيّ كلام طائفي أو مذهبي. ممنوع الخروج عن مطالب الثورة المتفق عليها. ممنوع المطالب الشخصية. ممنوع التسويق الشخصي. ممنوع الشتائم والكلام السوقي.

هو أوّل استقلال بعد 17 تشرين الأول. غداً هو الثاني والعشرون من تشرين الثاني. تُرى، بعد سنة من الآن، في الثاني والعشرين من تشرين الثاني هل سنكون قد عبرنا المخاض؟ السنة وراء الباب. قولوا الله.


MISS 3