بشارة شربل

بكركي و"حزب الله"... شروخ استراتيجية

25 تموز 2022

02 : 00

إذا كُتب تاريخ لبنان مستقبلاً بموضوعية ولم يزوِّره حبر المنتصرين او تضخِّمه مظلومية المهزومين، فسيُذكر حتماً ان حادثة توقيف مطران عند الحدود مع فلسطين في الهزيع الثاني من صيف 2022 دقَّت مسماراً إضافياً في نعش الوحدة الوطنية المهتزة من الأساس. وسيذكر المؤرخون المحايدون أن الحادثة لم تكن صدفة، ولا أشعلها تقاطع أحداث، بل خطَّط لها عقل مجرَّب ونفذتها أدوات اعتادت تقديم الولاء على الانتماء، وخُلقت لمهمات من هذا النوع تثير الحساسيات وردود الفعل الحادة وتزيد القناعة بلا جدوى صيغة التعايش الحالية في لبنان.

يلزم أي لبناني قدر كبير من السذاجة ليعتقد بأن احتجاز نائب بطريركي مثل موسى الحاج ومصادرة جوازه وما حمله من أدوية ومال هو تطبيق للقانون وإجراء روتيني يلتزمه "الأمن العام" استجابة لأمر القضاء (وأي قضاء!؟). فالقضية ليست "رمانة" بل "قلوب مليانة"، ولا هدف لها في مرحلة سياسية حساسة سوى تطويع الصوت الصارخ في برية "التطبيع" مع مصادرة الدولة وقرار السلم والحرب والذي تمارسه الدولة برؤسائها وأجهزتها وقضائها ومعظم قواها السياسية التي شكلت منظومة المافيا على مدى ثلاثة عقود، وصولاً الى بعض النواب التغييريين الذين يرفعون راية الإصلاح هرباً من الالتزام بواجب تحرير القرار.

هذه معركة مفتوحة لن يكون موضوع المطران الحاج سوى حلقة فيها. فلا مشروع هيمنة محور الممانعة قابل للتوقف بسبب قناعات رأس حربته "حزب الله"، ولا تاريخ 77 بطريركاً يسمح لبكركي بأن تحني رأسها لمن يستهدفها لخلخلة كيان لبنان ودور الموارنة الأساسي فيه والتراجع عن الدعوة لمؤتمر دولي يقر الحياد. والمسألة لا تتوقف عند خلافات سياسية أو "مواصفات" رئاسية وضعها البطريرك مناقضة لأوصاف الرؤساء الذين أتى بهم النظام السوري ووريثه "حزب الله"، بل تشمل النظرة الاستراتيجية الى طبيعة الصراع الاقليمي والسلام مع اسرائيل وما هو مسموح وممنوع في هذا الإطار. وكما تختلط السياسة بالنظرة الدينية التي ينطلق منها "حزب الله" لمقاربة هذا الموضوع، كذلك الأمر لدى البطريركية التي تعتبر أن حقها بديهي في صياغة رؤيتها ما دامت الدولة مسلوبة الإرادة ومرتهنة إما لخيار حرب يتفرّد به "حزب الله" ويجر وبالاً على اللبنانيين، أو الى ترتيبات تتيح لمحور ايران متابعة رفع شعارات المقاومة والتحرير فيما هو يعقد هدنة طويلة مع اسرائيل ثمنها توسع هيمنته على الداخل اللبناني ودفع مزيد من المسيحيين الى الهجرة.

لا يغيب عمَّن أوقف المطران 12 ساعة في الناقورة أن للخطوة تبعات تتجاوز قاضياً من هنا وجهازاً أمنياً من هناك. ولعلها جسُّ نبض آخر بعد حادثة "الطيونة" كي يُبنى على ردّ الفعل مقتضاه. لكن الأكيد انها تعبير في كل حالاتها، من البداية حتى ردود الفعل، عن غياب الدولة الحقيقية واستتباع المؤسسات، وعن الشرخ الذي يتوسع بين أكثرية الطائفة الشيعية وباقي المكونات التي اقترعت أغلبياتها ضد خيارات محور ايران. إنه شرخٌ واقع بين مشروعَيْن متعارضَيْن ولا يمكن أن يلتئم لا بانتخاب رئيس جديد ولا بتغيير قانون انتخابات، مثلما يستحيل أن تعالجه طاولة حوار محلية أو تستوعبه "دوحة" اقليمية.

"قصة المطران" لم تنته فصولها بعد. فعسى أن يُروى المتبقي منها يوماً بنزاهة تناقض رواية من افتعل مقدمتها من الألف إلى الياء.


MISS 3