على أنجيلا ميركل الرحيل... لمصلحة ألمانيا وأوروبا!

10 : 48

إذا اعتبرنا ألمانيا قلب أوروبا، يمكن تشبيهها راهناً بقلبٍ متباطئ لرجل أعمال مُتْخَم يرتاح على أريكة مكتبه بعد تناول وجبة غداء ضخمة. لمصلحة أوروبا وألمانيا معاً، يحتاج ذلك القلب إلى تسريع إيقاع ضرباته... تدرك النخب الألمانية المشاكل المتراكمة من حولها. بدأت برلين تنافس لندن كمعقل لمراكز التفكير، وتعجّ بأشخاص أذكياء لتفسير السبب الذي يجعل أوروبا تحتاج إلى درجة إضافية من الاستقلالية الاستراتيجية والابتكار الرقمي والنمو المستدام، فيما تواجه تحديات "بريكست"، والشعبوية، وترامب، وبوتين، والتغير المناخي، والذكاء الاصطناعي. لكن ينقصها الشعور بحجم هذه المسائل الطارئة والقدرة على تحويل تلك الأهداف المبهمة إلى سياسات ديناميكية تحظى بدعم الناخبين الألمان.

حتى الآن، تجيد ألمانيا تحديد غاياتها النهائية، لكنها لا تعرف الوسائل التي تسمح بتحقيقها.

لكن ما سبب هذا التباطؤ؟ كانت ألمانيا تبلي حسناً بكل بساطة ولم تشعر بالألم الذي واجهته معظم الأجزاء المتبقية من القارة، بطريقة أو بأخرى. من الواضح أن مختلف البلدان لا تعيش الأزمة نفسها. لكن حتى الناخبين الذين صوتوا بأعداد صادمة لصالح حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني والكاره للأجانب في شرق ألمانيا لا يتذمرون في المقام الأول من ظروفهم الاقتصادية.

حتى الآن، يعتبر معظم الألمان على الأرجح عهد أنجيلا ميركل الطويل (امتد على 14 سنة) فترة مستقرة وإيجابية من تاريخ البلد. أبلى الاقتصاد الألماني حسناً خلال هذه الفترة لأنه يستطيع الاتكال على نقاط القوة المألوفة في قطاع الأعمال الألماني من جهة، ولأن عهد ميركل استفاد من إصلاحات سوق العمل والرعاية الاجتماعية في عهد المستشار غيرهارد شرودر من "الحزب الديموقراطي الاجتماعي" من جهة أخرى. لكنه استفاد كثيراً في الوقت نفسه من الظروف الخارجية.شكّل انفتاح بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا بعد العام 1989، وانضمامها لاحقاً إلى السوق الأوروبية الموحّدة، فرصة ممتازة لشركات التصنيع الألمانية، فتمكنت من نقل مواقع منشآت الإنتاج إلى أماكن مجاورة بفضل اليد العاملة الماهرة والرخيصة، بما يشبه ما حصل في أوروبا الوسطى. كذلك، سمح اليورو بإبقاء العملة الألمانية بسعر صرف خارجي أقل من المستويات التي كانت تبلغها في ظروف مختلفة (يكفي أن نراجع ما حصل للفرنك السويسري). نتيجةً لذلك، زادت قوة التصدير الألماني، ما أنتج فوائض تجارية هائلة. وبما أن ألمانيا لديها التزام بروتستانتي إنجيلي بوضع ميزانية متوازنة وتطبيق سياسة "كبح الديون" الواردة في الدستور، يتمتع البلد بمالية عامة سليمة تحلم بها معظم البلدان الرأسمالية الديموقراطية.

لكن وراء قصة النجاح هذه، بدأت مشاعر القلق تتوسع بوتيرة متزايدة. هل أهدر البلد إذاً أفضل سنواته ولم يستثمر بما يكفي في بنيته التحتية المتهالكة؟ ربما فوّت تطورات الثورة الرقمية، لذا يبدو قطاع السيارات الأسطوري المحلي تقليدياً اليوم، مقارنةً بالسيارات الكهربائية ذاتية القيادة التي تُطوّرها الشركات العملاقة في "سيليكون فالي" والصين (كان إعلان "تيسلا" عن نيّتها بناء مصنع بالقرب من برلين بمثابة تحية لألمانيا وتحدٍ مباشر لأهم الشركات الوطنية، على غرار "مرسيدس" و"بي أم دبليو" و"فولكسفاغن"). قد تنهار جميع الإنجازات المحققة على مر عقود عدة الآن بسبب الهجرة، وحرب الضرائب التي أطلقها ترامب، والنزعة الشعبوية، ومخاوف أخرى. يقول الشعار الذي يعبّر عن مشاعر القلق الطاغية في أوساط الرأي العام، لا سيما في الجزء الغربي من البلاد: "لنتمسك بما نملكه"!

بعد 30 سنة على ثورة سلمية مهّدت لتوحيد ألمانيا، نشأ مجتمع دفاعي ومحافظ وشكّل ركيزة لسلطة دفاعية ومتمسكة بالوضع القائم. يتوق الرئيس الفرنسي ماكرون إلى تحديث أوروبا وتدعيم القارة العجوز بطموح استراتيجي على طريقة نابوليون، لكن ترفض ألمانيا بقيادة ميركل التعاون في هذا المجال. يقول أحد مستشاري ماكرون: "الأرستقراطيون لا يصوّتون لصالح الثورة"! (لو اعتبرنا الألمان الأرستقراطيين في حقبة ما قبل العام 1789، هل يصبح الفرنسيون حينها بمصاف عامة الشعب؟). كانت الردود الألمانية على مبادرات ماكرون الأوروبية فاترة أو لامبالية.تكون السياسة بأهمية الاقتصاد والمجتمع في كل مكان. لكن تبدو ألمانيا البلد الوحيد حيث يبذل السياسيون قصارى جهدهم لإضفاء جو ممل بامتياز على أوساطهم. هذه النزعة جزء من ثقافة المسؤولية والاتزان والاعتدال، وهي تعكس رفضاً واعياً لهمجية السلوك السياسي الألماني بين العامَين 1914 و1945. يسهل أن تتخذ جميع الخطابات منحىً مضجراً في ألمانيا. لكن إذا كان بوريس جونسون أو ترامب البديل الوحيد عن هذه النسخة الألمانية، من الأفضل التمسك بالشخصيات الجدّية والمملة.

خلال 10 سنوات من آخر 14 سنة، ترأست ميركل حكومات ائتلافية كبرى جمعت بين "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" اليميني الوسطي و"الحزب الديموقراطي الاجتماعي" اليساري الوسطي. أنتجت هذه المقاربة حكماً مستقراً ومتواصلاً لكن مقابل كلفة معينة. لم تكن الوسطية المبنية على التراضي كفيلة بإطلاق الجدل السياسي الضروري في أي ديموقراطية ليبرالية. لطالما تذمّر الألمان المحافظون من وجود حزبَين ديموقراطيّين اجتماعيّين في بلدهم. هذه الحكومة بارعة ومثالية في الأوقات السهلة، لكنها لا تتمتع بالطموح اللازم لمواجهة أكبر تحديات هذا العصر. في الوقت نفسه، أدى وجود الحزبَين الأساسيّين معاً في السلطة طوال هذه الفترة إلى توسّع الدعم للمتطرفين، في المعسكرَين اليميني واليساري.

يعرف الجميع أن عصر ميركل أوشك على الانتهاء، لكن تستهلك هذه العملية وقتاً أطول من "سقوط الآلهة" الأسطوري في كتاب Götterdämmerung لريتشارد فاغنر. وفق استطلاع جديد أجراه برنامج Politbarometer، أعلن أكثر من ثلثَي المشاركين أنهم يريدون أن تبقى ميركل وحكومتها حتى نهاية الفترة الانتخابية الراهنة، في خريف 2021. من حق الشعب الألماني طبعاً أن يقرر هوية حكّامه، لكن يبدو أن خياره لن يصبّ في مصلحة ألمانيا أو أوروبا.

تطرح ميركل ونائبها أولاف شولتس من "الحزب الديموقراطي الاجتماعي" خطة ذكية للتفوق على "آلهة" فاغنر. أولاً، حدّدا واجباتهما الخاصة وحضّرا تقريراً جزئياً يذكر أن الحكومة الائتلافية الكبرى قدّمت أداءً لامعاً بشكل عام. ثانياً، نشأ خلاف ظريف وبسيط بينهما عن معاشات التقاعد، لكنه انتهى بتسوية بنّاءة (يا لها من مفاجأة!). هما يريدان الآن حصد الدعم اللازم لاستمرار هذا الوضع خلال مؤتمرَين حزبيّين متلاحقَين: مؤتمر "للاتحاد الديموقراطي المسيحي" في نهاية هذا الشهر، وآخر "للحزب الديموقراطي الاجتماعي" في بداية الشهر المقبل.

لكن حتى السياسة الألمانية ليست متوقعة دوماً لحسن الحظ. ستواجه ميركل وأنغريت كرامب-كارنباور، المرشحة الأوفر حظاً لخلافتها، الانتقادات من منافسهما اليميني فريدريش ميرتس. وعلى شولتس أن يتفوق على منافسَين يساريّين لرئاسة الحزب. إذا قرر أعضاء "الحزب الديموقراطي الاجتماعي" الانسحاب من الائتلاف الكبير، تتعدد السيناريوات المحتملة حينها: حكومة فيها أقلية من "الاتحاد الديموقراطي المسيحي"؟ أم حكومة ائتلاف "جامايكا" مع حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" (أسود)، و"الحزب الديموقراطي الحر" (أصفر)، و"حزب الخضر" (أخضر)؟ أم انتخابات جديدة تُمهّد لحكومة بين الحزبَين "الأسود" و"الأخضر"؟

مهما حصل، ثمة أمر مؤكد واحد: لمصلحة ألمانيا على المدى الطويل وأوروبا عموماً، حان وقت التغيير!


MISS 3