جاد حداد

فرق أبحاث تعمل على صنع الأدمغة

3 آب 2022

02 : 01

تتدلى 12 كرة صغيرة وهلامية في طبق من السائل الزهري الشفاف. قد تبدو أشبه بمادة لزجة وعديمة الشكل عند رؤيتها بالعين المجرّدة. لكن عند مراقبتها تحت مجهر دقيق، تتّضح تعقيداتها الداخلية، فهي مؤلفة من لوالب معقدة وطبقات باللون الأحمر والأزرق والأخضر. إنها خلايا دماغية بشرية لها نتوءات متفرعة ومتّصلة ببعضها البعض، فتنتج نبضات كهربائية. تتألف الأفكار الدماغية من هذه المواد تحديداً. لكن صُنِعت هذه العيّنات من الخلايا في مختبر "مادلين لانكستر" في جامعة "كامبريدج". تُسمّى هذه الهياكل "العضيات الدماغية" أو "الأدمغة المصغّرة" أحياناً، وقد تساعد العلماء على فهم الدماغ بأفضل الطرق. سبق وأعطتهم لمحة جديدة عن طريقة عمل هذا العضو الغامض، واختلاف خصائصه لدى المصابين بالتوحد، ومستوى اختلاله في حالات مثل الخرف والأمراض العصبية الحركية. حتى أنها صُمّمت لابتكار عيون بدائية.

لتحسين قدرات الأدمغة المصغرة، يريد علماء الأعصاب تضخيمها وزيادتها تعقيداً. يحاول البعض تزويدها بالأوعية الدموية، ويعمد آخرون إلى دمج اثنين من العضيات، فيقلّد كل واحد منهما جزءاً مختلفاً من الدماغ. إذا نجحت هذه العملية، قد تصبح الأدمغة الناشئة في المختبر نموذجاً لنمو الدماغ والأمراض وبتفاصيل غير مسبوقة، ما يُمهّد لطرح وجهات نظر وعلاجات جديدة.

لكن فيما يسعى الباحثون إلى تصنيع أدمغة مصغّرة بمواصفات متكاملة، لا مفر من أن يضطروا للإجابة على السؤال المحوري التالي: متى سيقترب اختراعهم من مرحلة الوعي؟

كان اكتشاف الخلايا الجذعية عاملاً أساسياً لتطوير العضيات، علماً أنها تتمتع بقدرة مضاعفة على التكاثر ويمكن التلاعب بها في طبق مخبري أكثر من خلايا الجسم العادية. حقق هذا القطاع قفزة كبرى بعد تطوير "خلايا جذعية مستحثة ومتعددة القدرات"، في العام 2006، حين أثبت باحثون يابانيون إمكانية أخذ خلايا جلدية من شخص راشد وإعادة برمجتها وراثياً لتحويلها إلى خلايا جذعية تشبه تلك الموجودة لدى الجنين بعد أيام قليلة على تكوينه. عند استعمال العناصر الكيماوية المناسبة، قد تنضج الخلايا وتتحول إلى نوع من الأنسجة الأخرى، بما في ذلك الخلايا الدماغية أو العصبية.

من الناحية السلبية، تحصل زراعة الخلايا العصبية في مساحة مسطحة داخل طبق مخبري في بيئة اصطناعية. في الحياة الحقيقية، تكون الخلايا بثلاثة أبعاد، فلا تكف عن التصادم والتواصل. لتصنيع كرة ثلاثية الأبعاد من الخلايا، يجب أن يضخّ العلماء الخلايا الجذعية في كتلة هلامية صغيرة تتدلى على شكل سائل وتحتاج إلى من يهزّها طوال الوقت لمنعها من الوقوع في قاع الطبق.

في الوقت نفسه، من المقلق أن تطلق الخلايا العصبية الناضجة نبضات كهربائية، حتى أن مختلف الخلايا العصبية تتبع أحياناً أنماطاً من النشاطات المتزامنة والمعروفة بالموجات الدماغية ويمكن رصدها عبر وضع الأدمغة المصغّرة على شبكة من أقطاب التسجيل الكهربائية الضئيلة. يقول أليسون موتري من جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، إنها تشبه في تعقيداتها خلايا الجنين قبل شهر من ولادته. قام موتري بمجموعة من أفضل الأبحاث حول الأدمغة المصغرة.

سجلت مجموعات معينة تغيراً إضافياً في سلوك العضيات بحلول الشهر التاسع من الحمل، وكأن الخلايا كانت لتولد في تلك الفترة لو أنها موجودة في دماغ حقيقي. يقول سيرجيو باشكا من جامعة "ستانفورد" في كاليفورنيا: "هي تصبح أكثر شَبَهاً بالدماغ بعد الولادة، فتُغيّر مواصفاتها والبروتينات التي تنتجها". في أدمغة المواليد الجدد مثلاً، يتغير شكل جزيئة مرتبطة بالإشارات الكيماوية بين الخلايا العصبية. يمكن رصد هذه الظاهرة أيضاً في الأدمغة المصغّرة التي ابتكرها باشكا بعد تغذيتها لمدة تتراوح بين ثمانية أشهر ونصف وعشرة أشهر.

تعمل فِرَق بحثية أخرى على ابتكار أدمغة مصغّرة لتقليد حالات طبية متنوعة، ويمكن تصنيعها عبر استعمال خلايا جلدية مأخوذة من المصابين. إذا كانت الجينات تلعب دوراً مؤثراً في المرض، يُفترض أن تتقاسم العضية بعض الخصائص مع أدمغة المرضى. يُسبب مرض العصبون الحركي شللاً تدريجياً مثلاً، ويشير الخرف الجبهي الصدغي إلى شكل غير مألوف من الخرف الذي يظهر في مرحلة مبكرة بشكل عام (في عمر الخمسينات تقريباً). قد تبدو هاتان الحالتان منفصلتَين، لكنهما تنجمان في معظم الأوقات عن طفرات موجودة في المجموعة الصغيرة نفسها من الجينات.

تتعدد المعطيات التي تثبت أهمية العضيات لدراسة الدماغ بطرق لم تكن ممكنة سابقاً. لكن لا تزال العضيات نموذجاً غير مثالي عن الدماغ البشري. حتى الآن، يتباطأ نموها بعد مرور أشهر قليلة، حين يقتصر عرضها على بضعة ميلمترات.

لا تتابع عضيات الدماغ نموها لأنها تفتقر إلى الدم الكافي لإيصال الأكسجين والمغذيات. على عكس النسيج الطبيعي، يجب أن تتكل العضيات على أي إمدادات تتسرب من المغذيات السائلة إلى طبقها المخبري. ولن تعود هذه الكميات كافية حين تصل إلى حجم معيّن، فيتوقف نموها وتبدأ الخلايا في وسطها بالموت.

يستعمل فريد غيج من معهد "سالك" للدراسات البيولوجية في "لاجولا"، كاليفورنيا، مقاربة أخرى تقضي بزرع عضية صغيرة وغير ناضجة في دماغ فأر، ما يسمح لأوعيته الدموية بغزو الدماغ البشري المصغّر. اكتشف فريقه أن خلايا الدماغ البشري تتقبّل الأوعية الدموية التي تنمو نحو الداخل وتنشئ روابط مع دماغ الفأر. لكن يعترف غيج بأن هذه العملية لا تجعل الدماغ المصغّر بشرياً بالكامل.

نجح فريقان على الأقل في تصنيع أوعية دموية بشرية في أدمغة بشرية مصغرة، لكن لا تزال التجربة في مراحلها الأولى. قام الفريق الأول بهذه العملية عبر تصنيع عضيات وعائية انطلاقاً من خلايا جذعية غير ناضجة ثم دمجها مع العضيات الدماغية، فحصل بذلك على أدمغة مصغرة مليئة بالأوعية الدموية دامت لخمسين يوماً على الأقل. أما الفريق الثاني، فقد أضاف جينة تنشط في العادة داخل الخلايا الوعائية الناشئة إلى عدد من الخلايا العصبية، ثم شغّلها حين كان عمر العضيات 18 يوماً، فتحولت الخلايا الدماغية إلى خلايا وعائية أعادت تنظيم نفسها وأصبحت شبكة من الأوعية الدموية.





شملت العضيات الدماغية المشتقة من هذه العملية عدداً إضافياً من الخلايا العصبية الناضجة، مع أنها لم تكن أكبر من العضيات العادية. في الوقت الراهن، يحاول فريق إين هيون بارك في كلية الطب التابعة لجامعة "يال" تحفيز الهياكل لتطوير نظام لمفاوي: إنها شبكة من الأنابيب المشابهة للشعيرات الدموية التي تزيل المخلفات من الأنسجة.

يستكشف باحثون آخرون مقاربة مختلفة، لكنها أكثر تعقيداً وتقضي بتصنيع عدد من العضيات التي تقلّد أجزاء مختلفة من الدماغ، ثم تربطها ببعضها البعض وتنتج بنية أكبر حجماً تُعرَف باسم "التجميعات الخلوية" (Assembloids). ربط باشكا مثلاً عضية قشرية بعضية من الحبل الشوكي الذي يتّصل بحزمة من الألياف العضلية في طبق مخبري لمحاكاة الدوائر التي تتحكم بالحركة لدى الحيوانات الحية. عند تحفيز العضية القشرية، ترتعش الألياف العضلية.

بدأت التجميعات الخلوية تسلّط الضوء أصلاً على ميزة أساسية أخرى في نمو دماغ الجنين: هجرة الخلايا العصبية. يوضح باشكا: "هذه الهجرة ليست مجرّد حركة، بل إنها تترافق في معظم الأوقات مع نضج الخلايا الذي لا يحصل إلا بعد تنقلها". حين دمج فريق باشكا عضية قشرية مع عضية تمثّل منطقة ما تحت الرداء (Subpallium)، اتجهت الخلايا العصبية من المنطقة الثانية إلى الأولى.





حتى الآن، يتعلق خلل كبير آخر في الأدمغة المصغّرة بغياب المدخلات الحسية من البيئة المحيطة، علماً أنها ضرورية كي تتطور الدوائر الدماغية بشكلٍ طبيعي. اتخذ موتري الخطوات الأولى لمحاولة تحقيق هذا الهدف مع أدمغته المصغرة من خلال وصلها لاسلكياً بروبوتات صغيرة على شكل سلطعون يتحرك على الأرض.

تقع العضيات فوق مجموعة من الأقطاب التي تستطيع رصد النبضات الكهربائية في الخلايا الدماغية وإعادة إرسال المعلومات. يقول موتري: "ينقل الروبوت ما يراه إلى العضية، ثم تتفاعل العضية مع هذه المعلومة".

لم تتّضح بعد أفضل تقنية لتكبير الأدمغة المصغّرة وتحسينها. لكن إذا نجحت واحدة من الطرق المستعملة في مرحلة معينة، سيواجه الباحثون مشكلة معاكسة: ما العمل كي لا تصبح ابتكاراتهم نابضة بالحياة؟ يجب أن يفكر العلماء باحتمال أن تصبح العضيات الدماغية واعية، ما يعني أن تشعر بالألم.

لن تصبح هذه الابتكارات قريبة من تعقيدات الدماغ البشري طبعاً، لكن ينطبق ذلك أيضاً على دماغ الفأر، إذ تُحدد قوانين صارمة نوع التجارب الممكنة على الفئران. لا يرقى تطوير الموجات الدماغية في العضيات إلى مستوى الوعي، لكن يتوقع موتري أن تصل العضيات يوماً إلى مستوى من الإحساس الموجود لدى الفئران، ولا مفر حينها من التعامل مع عواقب هذا الوضع.

لكن كيف نعرف أن العضيات تقترب من مستويات الوعي التي تتمتع بها الفئران؟ وهل سنضطر في هذه الحالة لتدميرها أم نبقيها على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة؟ يصعب الإجابة على هذه الأسئلة لأننا لا نفهم بعد الأساس العلمي للوعي، وتكمن المفارقة في احتمال فهمه بفضل الأدمغة المصغّرة. لكن لا أحد يعرف في هذه المرحلة المعلومات التي يمكن اكتسابها من تلك الأدمغة. لا تزال هذه الجهود في بدايتها.