د. ميشال الشماعي

معضلة البقاء أو الرحيل

3 آب 2022

02 : 00

تسعى الشعوب في تاريخها النضالي كلّه للوصول دوماً إلى ما يؤمّن رفاهها بهدف الإنصراف إلى تطوير ذاتها لتحقيق الإنجازات التي تفيد البشريّة جمعاء. أمّا في لبنان فالمسألة مختلفة تماماً اليوم، حيث بات اللبنانيّ يفتّش عن السبل التي تسمح له بالبقاء على قيد الحياة. وهذه بحدّ ذاتها فداحة لا بل عار على الشعوب. فكيف يتخطّى اللبناني هذه المرحلة ليعود ذلك الإنسان المنتِج والفاعل في محيطه والعالم؟

بعض ممّا كتبه أحد أصدقائي ممّن هاجروا حديثاً إلى الولايات المتّحدة في مقارنة بين هذا البلد ولبنان، حيث نقل الواقع الذي بات فيه مصوِّراً إيّاه على أنّه المثال الذي كان يطمح إليه طيلة عمره، ومن غير الصحيح الإصرار على التشبّث بلبنان على أنّه المثال لأنّ الحقيقة التي عاينها في بلاد العم سام كانت كفيلة بأن تثبت له بأقلّ من سنة في هذا البلد أنّ لبناننا هو المثال في جهنّم، بينما العكس هو الصحيح في الغربة.

للحقيقة هذه المقارنة تدفع أيّ لبناني إلى طرح تساؤلات وجوديّة على ذاته، مثال ذلك: ما الذي أفعله في وطن لا حياة لي ولأولادي فيه؟ لماذا أصرّ على بعث الحياة في ميتٍ؟ هل التمسّك بما أراه في لبنان من جمال طبيعيّ وعلاقات اجتماعيّة ونوعيّة حياة قوامها الفوضى المنظمة هو المثال؟ أم أنّ الحياة في بلد فيه من الجمال الطبيعي ما لا يوصف ومن العادات والتقاليد التي تحيي الإنسان هو المثال؟ ماذا يفيدنا التمسّك بتاريخ الآباء والأجداد ونحن نعيش الموت كلّ لحظة؟

نوعيّة الحياة التي يختارها الإنسان هي خيار يتّخذه هو بذاته، بغضّ النظر عمّا قد تفرضه بعض الظروف أحياناً. منهم من يحيون ويستمتعون برتابة قاسية وقاتلة لكنّها تسعدهم؛ ومنهم مَن يحيون بنضال مستمرّ لإيمانهم بقضيّة وهم مستعدّون ليبذلوا حياتهم فداء لها. وما بين هذين الخيارين يقبع اللبناني اليوم في صراع وجودي في أغوار ذاته الكوزمولوجيّة. وليعود إنساناً فاعلاً ومنتجاً عليه أن يستعيد إيمانه بقضيّته اللبنانيّة أولاً، وليستعيد هذا الإيمان عليه أن يتسلّح بالرجاء الذي إن فقده في لبنان لن يجده في أيّ صقع من الأصقاع الأربعة للأرض.

فالمسألة تتخطّى نوعيّة الحياة، والقرار بالتمتّع بما توفّره لك الحياة من ملذّات أو من فرص. بالطبع لا يعني هذا الكلام أن نقبع غير منتجين في لبنان فقط لأنّنا نحبّ البقاء فيه أو نريده، بل المطلوب أن نشحذ النصال بالنصال ونشدّ العزائم على أن يكون عملنا أينما كنّا لنخدم وطننا. فبكلّ بساطة لا نريد أن نموت غرباء في أوطان العالم، ولا نريد بالطبع أن نحيا على قارعة الطريق في وطننا ننتظر الموت لنتحرّر منه. وبعضهم الآخر يقرّر الموت غريباً ليحيا اولاده من بعده في وطن لا يمتّ إليه سوى بصلة تأمين ظروف الحياة، وجيل بعد جيل يصبحون من أبناء الوطن الجديد، ليفنى بغيابهم لبنان بعد أن قرّروا تركه لغيرهم. مَن لا يستحقّ وطنه يرحل عنه، أمّا مَن يستحقّ وطنه يقدّم له ما يطلبه منه عند اللزوم. وهذا قرار وخيار وليس ترفاً يقرّر الإنسان أن يعيشه. مفهوم الوطن يختلف عن مفهوم الفندق أو الدكان. وحبّ الأوطان يزرع في القلب منذ الولادة. ومَن لم تزرع فيه حبّة الحنطة هذه عبثاً يبني له البنّاؤون. فهو حتماً سيرحل عند أوّل فرصة تقدّم له.

أمام هذه الوقائع يجب الأخذ بالإعتبار أنّ مَن قرّر الصمود والبقاء والتصدّي قد لا يكون لانسداد آفاق الرحيل أمامه، بل لأنّ هذا القرار يرتبط بصميم وجوده الحرّ في هذا الوطن. لا نريد أن نحيا غرباء في أوطان العالم، ولا نريد أن ننتظر الموت في وطننا لنتحرّر منه. نحمل قضيّتنا في وجداننا أينما ذهبنا، وإيماننا راسخ في هذه الأرض وفي الدور الذي أراده ربّنا وإلهنا لنا فيها. خلَقَنَا هنا لدور نؤدّيه لا لنرحلَ، ولكنّه خلقنا أحراراً وترك لنا الخيار. وجودنا هنا ليس بتكليفٍ شرعيٍّ إلهيٍّ بل وجودنا في هذه الأرض لأنّنا نؤمن بحريّة بقائنا فيها. ولأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ يَعْرِفُ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَدْهَمُهُ اللِّصُّ، لَكَانَ سَهِرَ وَمَا تَرَكَ بَيْتَهُ يُنْقَبُ،» لذلك، نحن ساهرون ومصابيحنا مشتعلَة، ولن نسمح للصوص بأن ينقبوا وطننا.


MISS 3