كريستينالو

"البحر الأبيض المتوسط" لم يعد كما نعرفه

6 آب 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

مصطافون يجلسون على شاطئ كاليثيا | شمال اليونان

لطالما عُرِفت منطقة البحر الأبيض المتوسط بشواطئها الخصبة وسواحلها المتعرجة، لكنها تشتهر الآن أيضاً بمناخها المتطرف الكارثي الذي حوّل المنطقة إلى مساحة حارة وخانقة حيث تستفحل حرائق الغابات وتتقلص الأنهار. تتعامل دول البحر الأبيض المتوسط منذ أسابيع مع خليط وحشي من الحر والجفاف، ما أدى إلى اضطراب الإنتاج الزراعي وتخريب مناطق بأكملها. تواجه إسبانيا والبرتغال أسوأ حالة جفاف منذ أكثر من ألف سنة، وأجبرت حرائق الغابات في اليونان وفرنسا عشرات آلاف الناس على الهرب من منازلهم. كذلك، بدأت الأنهار تجفّ في جميع أنحاء المنطقة، فاضطربت إمدادات الطاقة ومات آلاف الناس بسبب الحر.

في ظل تصاعد درجات الحرارة في منتصف شهر تموز، قال رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز: "التغير المناخي يقتل. هو يقتل الناس كما رأينا. وهو يقتل نظامنا البيئي وتنوعنا البيولوجي أيضاً، ويدمّر الأشياء التي يعطيها المجتمع أهمية كبرى: منازلنا، شركاتنا، مواشينا".



تُعتبر هذه المشاهد الكارثية في منطقة المتوسط من أوضح الأمثلة على تداعيات الأزمة المناخية التي بدأت تقلب الحياة رأساً على عقب في أنحاء العالم، وتنذر هذه الأحداث بما ينتظر مناطق أخرى. تتبع هذه التطورات أيضاً نمطاً عالمياً واضحاً: في المملكة المتحدة، أدى الحر القياسي إلى ذوبان الطرقات وأجبر الحكومة على إعلان حالة طوارئ وطنية. كذلك، يتعرّض الغرب الأميركي لموجة حادة من الحر والجفاف، وأصبحت المناطق الواقعة على الساحل الشرقي لأستراليا معرّضة للزوال، وأدت الفيضانات المفرطة في الصين إلى نزوح مئات آلاف الناس.




في هذا السياق، تقول ليزا شيبر، باحثة في "معهد التغير البيئي" في جامعة "أكسفورد": "الأمر المختلف هذه المرة هو ارتفاع درجات الحرارة بهذا الشكل في كل مكان. لا تقتصر المشكلة على أوروبا".



قد لا تكون فصول الصيف الحارقة ظاهرة غريبة في منطقة المتوسط التي تتّسم أصلاً بمناخ أكثر جفافاً من غيرها، لكن أدى التغير المناخي الذي سبّبه البشر إلى تكاثر ظواهر متطرفة مثل موجات الحر وتفاقم حالات الجفاف وإطالة مدتها وزيادة وتيرتها. اعتبرت "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ" هذه المنطقة "نقطة ساخنة للتغير المناخي"، وتسخن هذه المساحة الآن بسرعة تفوق المعدل العالمي بنسبة 20% وفق برنامج الأمم المتحدة للبيئة.



يقول ولفغانـــغ كرامر، مدير الأبحاث في "المعهد المتوسطي للتنوع البيولوجي والبيئة": "لا تقتصر المشكلة على الاحتباس الحراري، بل إنها خليط من الاحتباس والجفاف وقد تجاوزنا الحدود الإقليمية لاستدامة النظام الزراعي". أثّرت موجة الحر الأخيرة على المزارعين في جنوب فرنسا، واليونان، وإسبانيا، وإيطاليا، إذ تشهد هذه المناطق كلها تراجعاً في المحاصيل وتتكبد خسائر أخرى. أعلن الاتحاد الوطني للمزارعين الإيطاليين، "كولديريتي"، أن ثلث المزارع في إيطاليا أصبحت مضطرة الآن لإنتاج محاصيلها وتكبّد خسائر كبرى بسبب أزمة الغذاء العالمية واستمرار الجفاف. زاد الوضع سوءاً بعدما أصبحت إحدى المناطق الإيطالية أرضاً خصبة لتكاثر الجراد بسبب مناخها الجاف، وهي تواجه الآن أسوأ موجة جراد منذ ثلاثة عقود.



أثّرت هذه الظروف أيضاً على السلع الأساسية المعروفة في منطقة المتوسط، مثل النبيذ والزيتون. في إسبانيا، بدأ مزارعو الكروم المحليون يدقون ناقوس الخطر بعدما اجتاحت الحرائق حقول العنب، ويجد آخرون صعوبة في إنتاج نصف ما كانوا ينتجونه سابقاً. كذلك أصبحت "أندلوسيا" في جنوب إسبانيا، وهي أكبر مُنتِجة لزيت الزيتون في العالم، أكثر عرضة للجفاف، إذ يخشى المزارعون هناك أن يؤثر استنزاف الخزانات وتراجع عمليات الري المكلفة أصلاً على كمية المحاصيل ونوعيتها.


تشير بيانات المفوضية الأوروبية إلى زيادة مخاطر الجفاف وشحّ المياه بسبب التراجع الحاد في الأمطار في إيطاليا، واليونان، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، وشبه الجزيرة الايبيرية. وفي ظل تصاعد درجات الحرارة، وصل الجفاف الآن إلى نهر "بو"، وهو الأطول في إيطاليا ويُستعمَل لريّ المحاصيل المحلية مثل الأرز والذرة وحتى النبيذ. في الجنوب، من المتوقع أن يصل المغرب إلى شحّ كامل في المياه بحلول العام 2030.




لتخفيف آثار الأزمة المناخية، تعهدت بلدان أوروبية كثيرة تبني سياسات صارمة، وطلب الاتحاد الأوروبي بلوغ مرحلة الحياد المناخي بحلول العام 2050 وتخفيض صافي الانبعاثات بنسبة 55% بحلول العام 2030. أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في العام 2021، أن العالم يواجه اليوم "لحظة حقيقة": "لن تقع المشكلة خلال 30 أو 40 سنة. المشكلة قائمة الآن. يجب أن نحسّن الوضع خلال هذا العقد، وإلا سنجازف ببلوغ نقاط تحوّل لا رجعة فيها".



لكن أدت الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة المترتبة عنها إلى تعقيد هذه الجهود. للتكيّف مع وقف إمدادات الغاز الروسية وارتفاع الأسعار بدرجة قياسية، أعلنت إيطاليا والنمسا وألمانيا وهولندا في شهر حزيران أنها تستعد لإعادة فتح محطات توليد الطاقة بالفحم. لكن إذا أصبحت هذه التدابير المؤقتة دائمة، يحذر الخبراء من حصول انتكاسة في الجهود العالمية الرامية إلى محاربة التغير المناخي.



يقول براين هوسكينز، أستاذ في جامعة "إمبريال كوليدج لندن": "يكمن الخطر الفعلي في احتمال أن تتحول الحلول القصيرة الأمد إلى حلول طويلة الأمد".



في غضون ذلك، أدت إمدادات المياه المتضائلة إلى تفاقم هذه التحديات المستمرة في قطاع الطاقة، لا سيما في الدول التي تتكل على الطاقة النووية. تتلقى فرنسا حوالى 70% من الكهرباء من محطات الطاقة النووية، وتتكل محطات كثيرة منها على الأنهار في عمليات التبريد. لكن أصبح جزء كبير من تلك الأنهار المتضائلة ساخناً لدرجة ألا يعود صالحاً للاستعمال اليوم، ما يزيد المخاطر على إمدادات الطاقة المضطربة أصلاً في فرنسا. يقول كرامر: "توقّف العمل في عدد كبير من محطات الطاقة النووية في فرنسا بسبب الاحتبـاس الحراري والجفاف".



فيما يرتفع مستوى البحار بسبب التغير المناخي، يحذر الخبراء من احتمال أن تواجه مناطق المتوسط مستقبلاً مقلقاً جداً. يذكر أحد التقارير أن مستوى البحار في المنطقة قد يرتفع بمعدل يصل إلى 25.6 سنتيمتراً بحلول العام 2050، ما يُهدد حوالى ثلث شعوب المتوسط التي تتركز على طول المناطق الساحلية، فضلاً عن عدد من مواقع اليونيسكو في المنطقة، بما في ذلك مدينة البندقية ومعالم مسيحية قديمة في "رافينا". من "سان تروبيه" إلى "أمالفي"، أصبح عدد كبير من أشهر الوجهات السياحية التي تعجّ بالنشاطات السكانية والتجارية في منطقة المتوسط مُهدداً أيضاً.



تعليقاً على أثر التغير المناخي على الهجرة البيئية في المنطقة، يقول غرامينوس ماستروجيني، النائب الأول لأمين عام الاتحاد من أجل المتوسط: "لم تبرز بعد أي آثار مُدوّية، لكن يمكن القول إن هذا الوضع زاد الضغوط على المنطقة. بدأت المجتمعات هناك تتكيف مع الظروف وتقاوم المصاعب، وهي تدرك التحديات المطروحة مع مرور الأيام".


لكن في ظل امتناع الدول عن اتخاذ خطوات كافية وزيادة حدّة الأزمة، يحذر الخبراء من احتمال أن يواجه العالم مستقبلاً مناخياً يصعب التكيّف معه.



في النهاية تقول لينا تود، نائبة مدير مركز "بلان بلو" للنشاطات الإقليمية التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: "غالباً ما نعتبر منطقة المتوسط نموذجاً مصغّراً عن العالم لأنها تشمل ظروفاً مختلفة في كل مكان. ويظن الكثيرون أيضاً أننا نستطيع حل مشاكل العالم عبر حل مشاكل منطقة المتوسط".

MISS 3