كارين عبد النور

بـ 10 مهندسين بدل 25... المفتّشية العامة الهندسية تنبض أملاً رغم الصعاب

المفتش العام الحجار: لتعديل القانون كي لا نبقى لُعبة ورقية

8 آب 2022

02 : 00

التفتيش المركزي... ملفات
متّهمة هي بالتقاعس في أعمالها الرقابية، لا سيّما تلك المتعلّقة بمشاريع الطاقة والكهرباء كما المياه وتلزيم الطرقات. لكن هناك دائماً ذلك العامل المعلوم – المجهول عندما نتكلّم عن الإدارات العامة. فالتدخلات السياسية، إضافة إلى واقع القانون الذي يحدّ أصلاً من صلاحياتها، وفي مقدّمها القرارات الصادرة مباشرة عن مجلس الوزراء، تقف في كثير من الأحيان حجر عثرة في وجه قيامها بدور فاعل. عن المفتّشية العامة الهندسية نتحدّث وفي صميم عملها ندخل.

حدّد المرسوم رقم 2460 من تنظيم التفتيش المركزي، تاريخ 09/11/1959، اختصاصات المفتّشية وصلاحياتها في حقل الهندسة المدنية والنقل والكهرباء والميكانيك والاتصالات، بحيث تشمل رقابتها الإدارات والعاملين فيها وفق أحكام المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي رقم 115 من إنشاء التفتيش المركزي. مصلحة التفتيش الهندسي تُقسم إلى فرعين: الأول فرع الهندسة المدنية والنقل المسؤول عن شؤون الطرق والمياه والمساحة والنقل؛ والثاني فرع الكهرباء والميكانيك والمواصلات الذي يشمل الشؤون الآلية والكهربائية والراديو - كهربائية والسلكية واللاسلكية.

للاطّلاع أكثر على عملها، قامت «نداء الوطن» بزيارة مكاتب المفتّشية العامة الهندسية الواقعة في مبنى التفتيش المركزي. وأوّل ما يواجه الزائر هو مشقّة الوصول إلى الطابق السادس من المبنى في ظلّ عتمة حالكة يخترقها بين الفينة والأخرى ضوء خجول ينبعث من أحد الأبواب شبه الموصدة. أما الصمت الذي يخيمّ على طوابق المبنى، فيجيب على أسئلة كثيرة قبل أن نبدأ طرحها.



المعاملات المنجزة من قبل المفتشية العامة الهندسية خلال العام ٢٠١٩







المعاناة تتكرّر

يستقبلنا المفتّش العام الهندسي، المهندس أحمد الحجار، والمفتّشون الهندسيون: مهى الدقاق، يوسف ابراهيم وعصام شباني من الجهاز المعاون لرئيس التفتيش المركزي، ورئيس الدائرة الحقوقية فلورانس محسن. في طليعة ما يتبادر إلى ذهننا هو الاستفسار عن الأوضاع المزرية التي تتربّص بموظفي الإدارات العامة. ومن هنا نستهلّ حديثنا. «التفتيش هو مركز رقابي، فكيف للمفتّش أن يستخدم طاقاته الفكرية والجسدية والمادية للقيام بهكذا دور وهو لا يملك ثمن ربطة خبز لأولاده؟». هكذا اختصر ابراهيم ألمه – وهو لسان حال كافة زملائه على الأرجح - ليكمل الحجار شارحاً أن الوضع بات صعباً جداً وما الإضراب المفتوح على جميع الاحتمالات الذي يشهده القطاع العام سوى خير دليل على ذلك. فالمفتّشية تعاني من نقص حادّ في القرطاسية والتجهيزات كما في أعمال الصيانة وتوفّر الاعتمادات، هذا إضافة إلى الرواتب والأجور وبدلات النقل والتنقّل المتدنية والتي لا بوادر لمعالجتها على المدى المنظور.

ما سمعناه، على قساوته، لم يكن مفاجئاً. إنه صدى لإجابات تردّدت أينما توجّهنا بأسئلتنا في مختلف مفتّشيات التفتيش المركزي. نعود إلى جهاز التفتيش الهندسي الذي تراجع عديد كادره من 25 مهندساً (كما جاء في الملاك) إلى حدود الـ10 مهندسين راهناً، موزّعين بين مهندسين مدنيين وكهرباء واتصالات وميكانيك. ورغم المطالبة بنقل بعض المهندسين من الإدارة العامة إلى المفتّشية الهندسية، إلّا أن التجاوب متعذّر لغاية الآن. نسأل هنا: كيف لإمكانيات بشرية متواضعة من حيث العدد أن تتصدّى لمهمة مراقبة مشاريع تمتد على مساحة الوطن وتتبع لمؤسسة كهرباء لبنان ومؤسسات المياه، ووزارات الزراعة والطاقة والسياحة والشباب والرياضة والأشغال وغيرها من الإدارات؟ يشرح الحجار في هذا السياق: «العبرة ليست فقط في المناقصات والتلزيمات، إنما في التنفيذ ومدى التقيّد بأحكام دفاتر الشروط. علينا مواكبة المشروع خلال مرحلة التنفيذ وليس بعد الانتهاء منه، وهذه المواكبة مرتبطة قطعاً بالتعيين والتوظيف. لكن للأسف، فريق العمل الحالي لا يمكنه القيام بكلّ هذه المهام».



فنّ التحايل على القانون

بالانتقال إلى التدخلات السياسية في عمل الأجهزة الرقابية، فهي الأخرى لا سقف لها. والحال أن عدم تجاوب الكثير من الوزارات مع المفتّشين الهندسيين ليس بالأمر المستجدّ. ففي وقت يحق للمفتّش قانوناً الحصول على المعلومات في أي وقت يختار، تشير محسن: «في كل مرّة نريد الدخول إلى بعض الوزارات وطلب مستندات معيّنة، علينا أن نقدّم كتاباً خطياً إلى الوزير المختص لإعطاء موظفي الإدارة الموافقة على منحنا حق الاطّلاع على المعلومات والمستندات». ويستطرد ابراهيم: «هناك مذكّرات تصدر أحياناً من الوزراء مباشرة وتمنع التفتيش من ممارسة مهامه في إدارات ووزارات معيّنة أو حتى في ملفات محدّدة، في حين أن المرسوم الاشتراعي رقم 115 أعطى المفتّش الهندسي حق الدخول إلى كافة الإدارات باستثناء البعض منها، كالجامعة اللبنانية ووزارة الدفاع والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي». هل يجوز تعميم الاستثناء وما المقصود بذلك؟ «القصد واضح وليس بحاجة إلى تفسير»، كما يقول الحجار.

من ناحية أخرى وفي وقت أعفى القانون بعض الجهات كمجلس الإنماء والإعمار وأوجيرو والسلطات التقريرية في البلديات من الخضوع لرقابة التفتيش الهندسي، لفت الحجار إلى أساليب معتمدة، لا سيّما من قِبَل وزارة الأشغال وبعلم من مجلس الوزراء، للتفرّد في إدارة صفقاتها. القانون نصّ على أن الصفقات التي تخضع لرقابة إدارة المناقصات يجب أن تفوق قيمتها الـ100 مليون ليرة، في حين لا تخضع لرقابة ديوان المحاسبة تلك التي لا تتخطى الـ75 مليون ليرة. وعليه تعتمد وزارة الأشغال مبدأ التجزئة للتهرّب من هاتين الرقابتين والتفرّد بتنفيذ مشاريعها.



آخر من يعلم؟

ماذا عن مراقبة مرحلة استلام المشاريع والتأكّد من استيفائها أحكام دفاتر الشروط؟ «فريق العمل صغير جدّاً حالياً ويضمّ أربعة مهندسين مدنيين فقط، فلا إمكانية لدينا لمراقبة المشاريع كافة، هذا إذا أُبلغنا أساساً بها... هناك تلزيمات تحصل داخل الوزارات ولا نعلم بمضمونها»، تجيب الدقاق. الشكاوى اليومية التي تصل إلى المفتّشية العامة الهندسية أعدادها مرتفعة لا سيّما بعد فتح المجال لرفعها إلكترونياً. وحفاظاً على المصداقية، بالكاد يستطيع المفتّشون الردّ ومتابعة أكبر قدر منها ما يجعل من مراقبة عمل الوزارات أمراً شبه مستحيل.

في حال نُفّذ مشروع ما دون أن يستوفي شروط العقد وثَبُتَت مخالفته لناحية هدر المال العام، تقوم المفتّشية العامة الهندسية بتحويل الملفّ إلى النيابة العامة التمييزية. وما حصل في مشاريع منفّذة من قِبَل بعض البلديات في قضاء بعبدا وقضاء المتن مثال، حيث تمّ استخدام مادة BASE COURSE بسماكة 10 سم في حين تمّت فوترة 90 سم ما أدّى إلى إثراء المتعهد على حساب المال العام، فما كان من المفتّشية العامة الهندسية إلّا أن عملت على تحويل الملفات إلى القضاء. كذلك كانت الحال في بلدية بيروت إذ جرى، منذ سنتين تقريباً وفي مرحلة التقشّف، تغيير 14 ألف لوحة إرشادية على الطرقات ليتبيّن لاحقاً أنها لا تستوفي دفتر الشروط، عدا عن انتفاء الحاجة لتجديد معظمها. فتحرّكت المفتّشية عفواً ضمن البرنامج السنوي ورفعت تقريرها إلى هيئة التفتيش التي حوّلته بدورها إلى القضاء. أمّا في ما خصّ الأشغال ومشاريع توسيع وصيانة الطرقات التي يقوم بها مجلس الإنماء والإعمار وتشكّل حوالى ثلاثة أرباع مشاريع البلد، فلا سلطة للتفتيش الهندسي عليها. وذلك على عكس أعمال وزارة الأشغال التي يتابعها المفتّشون الهندسيون بما أتيح لهم من إمكانات. من ناحية أخرى، لا علاقة للتفتيش الهندسي بغالبية المواضيع المطروحة إعلامياً والمتعلّقة بملفات الطاقة. فإنشاء معملي دير عمار والزهراني كان من قبل مجلس الإنماء والإعمار وليس من قبل مؤسسة كهرباء لبنان، وبالتالي لا يخضع المعملان لرقابة التفتيش الهندسي، هذا إضافة إلى أن معمل سلعاتا ما زال في مراحله التحضيرية ولم تبدأ الأشغال فيه بعد كي تتمّ متابعتها. مع الإشارة إلى أن التفتيش الهندسي هو أول من تناول، في ملف البواخر، موضوع نوعية الفيول المستخدم وعدم تطابقه مع المواصفات القياسية المطلوبة. ويقوم المفتّشون الهندسيون بمتابعة المشاريع المتوسطة المنفّذة من قِبَل المؤسسة كإمدادات شبكات التوتّر المتوسط وإنشاء محطات التحويل مع مواكبة عملية التنفيذ تفادياً لحدوث الأخطاء.

محسن تشير في هذا الخصوص: «عادة، حين يضع التفتيش الهندسي يده على ملف ما، تسعى الوزارة إلى تنفيذه بأفضل ما يمكن لأنها تدرك مسبقاً أنه أصبح تحت رقابتنا. لكننا نتكلم عن ملف من أصل خمسين لا قدرة لدينا على مراقبتها جميعاً. عندما يسمع الرأي العام بملفات فساد، فليتأكّد الجميع أنها لم تخضع لرقابتنا أو لم نكن على دراية بها منذ البداية».



نحو الحوكمة الرقمية

يخضع المفتّشون الهندسيون حالياً لدورات تدريبية على يد خبراء دوليين ارتقاءً بالتفتيش الهندسي إلى مصاف المعايير العالمية. فالعمل الرقابي يجب أن يتحول إلى عمل تقييمي للأداء المؤسسي بحيث تَمثُل الإدارة أمام التفتيش كشخص معنوي يُقيَّم على أساس مؤشّرات عدّة، مع العلم أن اللجنة المختصة بالتقييم تشمل جميع الاختصاصات. ويعلّق الحجار: «الانطلاق في هذه الخطوة يستوجب تعديلاً في القانون كي لا نبقى لُعبة ورقية يُنظر إليها فقط كجهة معاقَبة. هدفنا هو الوصول إلى تحديد نقاط القوة في كل إدارة والعمل على تعزيزها، كما نقاط الضعف ورفع توصيات لتحسينها، وذلك من خلال اعتماد المكننة».

توازياً، ثمة تعاون مع الاتحاد الأوروبي لغرض تعزيز فكرة، لا بل ثقافة، التدقيق (AUDIT) من خلال دورات بإدارة خبراء فرنسيين يشارك فيها المفتّشون الهندسيون. «نخضع منذ أكثر من سنة لدورات تعليمية حول أساسيات عملية التدقيق وكيفية إعداد مصفوفات المخاطر، كما نشارك في عمل لجنة لاقتراح قانون جديد للتفتيش المركزي يراعي مبدأ التدقيق ويتحوّل فيه بعض المفتّشين إلى مدقّقين. هي فكرة حديثة وأسلوب من أساليب الرقابة يستخدم البرامج المعلوماتية والجداول والبيانات الإحصائية للتأكد من سلامة التنفيذ طبقاً للقواعد والمعايير وبكل حيادية. التدقيق يريح الموظف من أعباء مفهوم العقاب لينطلق معه إلى مفهوم تحسين الإجراءات وتقييم الأداء»، يضيف شباني. وعلى نفس الشاكلة، يوصي التفتيش الهندسي باحترام معايير «ليبنور LIBNOR» كما يقوم المفتّشون بالمشاركة في بعض اللجان لوضع المواصفات القياسية، طالبين من الإدارات التقيّد بها. المشاريع المستقبلية لها حيّزها أيضاً. فالمفتّشون الهندسيون يعملون على ابتكار جديد ألا وهو الرقابة المتزامنة مع التنفيذ من خلال اعتماد الرقابة الإلكترونية على المشاريع. وتُعتبر منصّة IMPACT في هذا الإطار أكثر من خطوة أولى على طريق الحكومة الإلكترونية (E-GOVERNMENT). «إنها الحوكمة الرقمية وطموحنا وضع خطط ورؤية لتحقيق الرقابة الإلكترونية»، يشير الحجار خاتماً.

صامدون

أمور عدّة مطلوبة لتمكين التفتيش الهندسي من القيام بدوره وتحقيق طموحاته. أولاً، يجب تعديل القانون بما يتلاءم مع توسيع صلاحيات المفتّشية وإطلاق يدها من دون أي قيود سياسية. من جهة أخرى، هناك حاجة ماسّة لتأمين تجهيزات معلوماتية وأدوات قياس إلكترونية وغيرها، وهي غير متوفّرة حتى اليوم في المفتّشية العامة الهندسية. ثم تأتي الموارد البشرية وزيادة العديد كشرط أساسي للتمكّن من الإحاطة بالعدد الأكبر من المشاريع، مع تعزيز التحفيزات للمفتّشين. «المفتّش الهندسي هو الوحيد الذي ينفّذ مهمة رسمية بسيارته الخاصة، من دون أن تُعفى سيارته من الرسوم الجمركية أو أن يحصل على أي نوع من الحماية أو التعويضات نظراً للخطر الذي يتعرّض له خلال تأدية واجبه»، صرخة أطلقها على مسمعنا المفتّشون جميعاً.

على رداءة المشهد العام، غادرنا المفتّشية بمجموعة انطباعات إيجابية. لكن أحدها لم يكن ليحتمل التأويل: ذلك الالتزام الأخلاقي الذي جمع مهندسيها قبل موعد اللقاء حول طاولة واحدة متحدّين الظروف. فهم يعطون أقصى ما يملكون. وفي ذلك تعزية لهم، كما أخبرونا، ودافع للاستمرار بالقليل القليل المتبقّي.


MISS 3