نعلم أن غزة تحت الحصار، وأن لا مبرر أخلاقياً للبحث عمَّن بدأ جولة التصعيد والقتال، لكن لا يجوز إطلاقاً لايران الحديث عن "وحدة الساحات" ودور صواريخ "حزب الله" واعتبار لبنان جزءاً من المعركة، مثلما لا يمكن للمفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان اعتبار أن "الكلمة للميدان الآن" رابطاً مصيرنا بمصير تنظيم "الجهاد" حتى قبل أن تتضامن معه "حماس"!.
هذا كلام ممل ومكرور وتعارضه أكثرية ثلاث طوائف اقترعت لمن يطالب باستعادة سيادة الدولة ووحدانية سلاحها الشرعي ويرفض المغامرات من أي نوع ولأي سبب. نتعاطف مع الفلسطينيين حتماً لكننا نريد بلدنا بمنأى عن انعكاسات جولات قتال يحدد توقيتها الاسرائيلي أو فصيل موال لمحور ايران أو أي محور آخر ضمن حسابات ليس للبنانيين مصلحة فيها فحسب، بل الأرجح ألا تكون في مصلحة الفلسطينيين أيضاً.
ليست كل المعارك انتصارات حتى لو كابَر المتضررون وادَّعوا ان الدماء تعجِّل في تحرير فلسطين وعزُّوا أهالي الضحايا بخطاب الصبر والأمل بمستقبل وردي. فخوض الصراع يستلزم كل أنواع العتاد وتضافر الظروف التي تتيح تحقيق تقدم يستحق عناء التضحيات وليس تحريك الجبهات بالتوازي مع ايقاع أي نوع من المفاوضات. أما الأدهى فهو السقوط في فخ عدو قادر، والدعوة الى تحمل الخسائر ورؤية أشلاء الأطفال بموازاة الترويج بأنه أساء التقدير والحساب.
غزة دائماً في قلب المأساة، لكنها استفحلت منذ استفردت "حماس" بحكمها وكان ما كان بينها وبين قوى السلطة الفلسطينية من بحر دماء واتفاقات ونكث بالعهود والتعهدات. وتلك السيطرة لم تحقق لأهل غزة القرار الوطني المستقل أو تقدماً لناحية فك الحصار الاسرائيلي، أو تحسناً في مستوى العيش، بل على العكس عمقت المعاناة والعزلة، وزادت شهية الاحتلال لتكريس واقع الانفصال بين الضفة والقطاع بإجراءات تستفيد من حال الفرقة والنزاع.
شأن الفلسطينيين في غزة وكل فلسطين أن يختاروا من يعبّر عن قناعاتهم السياسية والايديولوجية، وواجبهم البديهي رد العدوان، وهم أحرار في خيار مباشرة القتال، لكن عليهم في لبنان محاذرة التحول أداة توريط تستخدمها ايران. فيكفي لبنان ما دفعه من أثمان. وإخضاعه لتجربة جديدة ظلمٌ لا يستقيم في شريعة دنيوية ولا في شرائع الأديان.
ينتهي التصعيد في غزة بوقف اطلاق نار، للاسرائيلي مصلحة في التوصل اليه الآن، بعدما حققت آلته العسكرية أهدافها وعزز يائير لابيد موقعه في انتخابات الكنيست المقبلة. لكن الدرس الفلسطيني المستفاد يجب ألا يقتصر على الافتخار بتكريس تنظيم حليف لطهران شريكاً مضارباً لـ"حماس" في عقد الهدنات، وعلى التأمل جيداً بسرعة انهيار الكهرباء والمستشفيات ومقومات الحياة، بل الانتباه أيضاً الى أن سقوط 43 شهيداً ومئات الجرحى لم يحرك رأياً عاماً غربياً ودولياً تعوَّد على التعاطف مع العذابات الفلسطينية، ولا أثار اهتمام مواقع تواصل عالمية كانت تظهِّر سابقاً ممارسات اسرائيل الوحشية خلال الغارات التدميرية.
التعاطف الدولي والإعلام جزء لا يتجزأ من أدوات الصراع، خصوصاً في ظل اختلال التوازن العسكري بين الضحية والجلاد، لكن التوقيت قاتل في بعض الأحيان، فكيف اذا كانت دماء حرب اوكرانيا تجري في قلب أوروبا، وتوتر تايوان بين واشنطن وبكين يسرق الاهتمام والأضواء؟