حسين حقاني

رهان باكستان الجنوني على الصين

9 آب 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان ونظيره الصيني لي كه تشيانغ في بكين | تشرين الأوّل ٢٠٢٢
في شهر تموز، أسقطت انتفاضة شعبية الحكومة في سريلانكا وأرسلت رئيس البلد إلى المنفى. بدأت العوامل التي فجّرت هذا التحرك تتراكم منذ أشهر، غداة انهيار الاقتصاد المحلي، ومع ذلك تفاجأ المراقبون بما حصل. في مشاهد سريالية بمعنى الكلمة، اقتحم المحتجون القصر الرئاسي، وسبحوا في حوض السباحة، وتناولوا الطعام في المطبخ، وتجولوا في غرف النوم، وعقدوا اجتماعات صُوَرية في قاعات المؤتمرات. هذه المشاهد الآتية من سريلانكا صدمت الاقتصادات الغارقة في ضائقة مالية في أنحاء جنوب آسيا، تلك المنطقة التي تشوبها حكومات غير مستقرة، ونزعة قومية سامة، ومظاهر التطرف العنيف، وتتحمّل عواقب توسّع النفوذ الصيني. من دكا إلى إسلام أباد، شاهدت حكومات المنطقة الفوضى القائمة في كولومبو وتساءلت عن احتمال أن تشهد الأحداث نفسها قريباً.

تدهور الوضع في سريلانكا بسبب انهيار اقتصاد البلد، تزامناً مع ارتفاع أسعار السلع بدرجة قياسية وتفاقم أزمة الديون. تشكّل هذه التجربة درساً مريراً للاقتصادات المتعثرة التي تمرّ بظروف مشابهة، لا سيما تلك التي تبالغ في الاتكال على الصين، مثل سريلانكا. تفيد التقارير بأن 42 دولة ذات مداخيل منخفضة ومتوسطة، بما في ذلك جيبوتي، وقيرغيزستان، ولاوس، وزامبيا، بالإضافة إلى سريلانكا، أخذت ديوناً كبيرة من الصين تفوق قيمتها العشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. تُعتبر أزمة سريلانكا مخيفة بالنسبة إلى باكستان التي تتكل بشدة على القروض الصينية. علّقت باكستان آمالاً تنموية كبرى على استثمارات الصين. لكن رغم ارتفاع تكاليف الاقتراض، لا يزال القادة الباكستانيون مقتنعين بأن رهانهم على الصين يستحق العناء. إذا تبيّن أنهم مخطئون، قد تُمعن علاقة البلد مع الصين بإضعاف باكستان وتُعرّضها لاضطرابات سياسية متزايدة تزامناً مع حصول انكماش اقتصادي خطير.

تعكس المشاكل المرتبطة بميناء "جوادر" الاضطرابات التي تلوح في أفق باكستان. وقد ركّز الصينيون على بناء هذا الميناء البحري على ساحل بحر العرب، في محافظة "بلوشستان"، وتعهدوا بتسهيل الوصول إلى الشرق الأوسط من خلاله. كما استأجرت الحكومة الصينية هذا الميناء في العام 2017 لمدة أربعين سنة، وتديره "شركة الصين القابضة للموانئ": تتلقى هذه الشركة الصينية المملوكة للدولة 91% من الأرباح التي تُحققها مختلف النشاطات في الميناء.

لكن مثلما عجز ميناء "هامبانتوتا" السريلانكي المدعوم من الصين عن دفع مستحقاته، فشل ميناء "جوادر" في جذب حركة بحرية واسعة. ربما بدا هذا الاستثمار الصيني الضخم انتصاراً رمزياً لباكستان، لكن تتراجع منافعه نظراً إلى غياب النمو الاقتصادي محلياً وانعدام الاستقرار في أفغانستان المجاورة (كان يُفترض أن تمرّ بها السلع براً من "جوادر" إلى آسيا الوسطى). من الواضح إذاً أن اتكال باكستان المفرط على الصين يطلق حلقة مفرغة سبق وتكررت في دول أخرى كانت قد انجذبت إلى نموذج التنمية الصيني. ونظراً إلى ضخامة المبالغ التي تدين بها هذه البلدان للصين وتراجع التنوع الاقتصادي فيها، من المنطقي أن تلجأ هذه الدول كلها إلى الصين لإنقاذها من مشاكلها مستقبلاً.

بالإضافة إلى المسائل الاقتصادية، تكثر المخاوف في الهند والغرب من رغبة الصين في إنشاء قاعدة بحرية في ميناء "جوادر" الذي سيصبح على الأرجح ذات استعمال مزدوج، فتديره الصين على شكل منشأة تجارية وعسكرية في آن. قد يسمح هذا الميناء بزيادة قوة الصين البحرية في المحيط الهندي، فتستكمل بذلك وجودها البحري القوي في جيبوتي. تحافظ باكستان من جهتها على وجود بحري في "جوادر"، لكنها نشرت أيضاً أكثر من 15 ألف عنصر عسكري في المنطقة لحماية أمن الصينيين.

زادت التهديدات المطروحة على الصينيين والمشاريع الصينية رغم الضمانات الأمنية الباكستانية، فقد استهدف القوميون البلوشيون وجماعات متطرفة أخرى المواطنين الصينيين في مناسبات متكررة. في شهر نيسان، هاجمت امرأة انتحارية "معهد كونفوشيوس الصيني" في كراتشي، فقتلت ثلاثة مواطنين صينيين. كذلك، استهدف انفجار آخر في أحد فنادق مدينة "كويتا" الجنوبية الغربية السفارة الصينية. وفي تموز 2021، أسفر انفجار حافلة عن مقتل تسعة مهندسين صينيين. أدت هذه التهديدات كلها وزيادة التطرف في "بلوشستان" إلى إضعاف رغبة الصين في الاستثمار في أفقر محافظة باكستانية.

لكن رغم هذه المصاعب، لا تزال الصين وباكستان شريكتَين مقرّبتَين. أنكرت السلطات الصينية والباكستانية تخطيطها لعسكرة ميناء "جوادر"، لكن تبقى الصين أكبر موردة أسلحة لباكستان. بين العامين 2010 و2019، قدّمت الصين 70% من واردات الأسلحة إلى باكستان، أي ما يساوي أكثر من 5 مليارات دولار. وبين 2017 و2021، وصل 47% من إجمالي صادرات الصين من الأسلحة العالمية إلى باكستان.

أصبح هذا التعاون أكثر وضوحاً منذ أن جلبت الصين "مبادرة الحزام والطريق" إلى باكستان. يبدو أن الصينيين يريدون مساعدة باكستان على الاستعداد لحرب تقليدية محتملة مع الهند، فسلّموها كمية كبيرة من الطائرات المقاتلة والمسيّرة والمسلّحة، وأنظمة الصواريخ البالستية، وأنظمة الدفاع الجوي، والغواصات، والسفن الحربية، ومروحيات النقل والاستطلاع، والدبابات، والذخائر الموجّهة، بما ينتهك اتفاقيات الحد من التسلح مثل "نظام مراقبة تكنولوجيا القذائف". كذلك، نفّذ الجيشان تدريبات عسكرية مشتركة في السنوات الأخيرة. احتجّت الهند من جهتها على الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان لأنه يمرّ بإقليم كشمير المتنازع عليه.

بالنسبة إلى باكستان، لا يخلو هذا التعاون المتزايد من التحديات التقنية. فذكرت وسائل الإعلام مثلاً أن جزءاً من المعدات الصينية التي تتلقاها باكستان شائب، بما في ذلك النسخة الأولى من الطائرات المسيّرة الصينية "وينغ لونغ"، فقد تحطّمت طائرة منها في مرحلة مبكرة من استعمالها في باكستان. كذلك، تتعدد المشاكل في نظام الدفاع الجوي LY-80 (برنامج لاعتراض الصواريخ) بسبب سوء نوعية المواد، وتسرّب النفط، وتعطيل البيانات نتيجة اختلالات في نظام تحديد المواقع العالمي. تجدر الإشارة إلى أن باكستان تتكل على شركات التصنيع الصينية لتلقي البرمجيات الاحتكارية، وقطع الغيار، وخدمات الصيانة أيضاً.

لكن يتابع التعاون بين البلدين توسّعه رغم هذه الشوائب. في شهر نيسان، أعلن قائد الجيش الباكستاني، العميد قمر جاويد باجوا، أن التزامات بلده تجاه الصين تتزايد، ولام الغرب على رفضه الاستثمار في خطط باكستان العسكرية ومشاريع البنى التحتية. كما زاد الجيش إنفاقه هذه السنة بنسبة تفوق 11% رغم مشاكل البلد المالية. في الوقت نفسه، بدأت الصين تستعمل شركات الأمن الخاصة لحماية مصالحها في ظل تصاعد الاعتداءات ضد المواطنين الصينيين.

تراهن باكستان على مكانتها التي تبقى أهم من سريلانكا بالنسبة إلى الصين وبقية دول العالم. ستكون التداعيات العالمية للفوضى السياسية في باكستان، بعد أي انهيار اقتصادي مماثل، أكبر من تلك التي شهدتها سريلانكا، وهذا ما يزيد آمال باكستان في تدخّل القوى الكبرى لتعويم البلد. لكنّ هذا الوضع لا يمنع احتمال أن تندلع اضطرابات كبرى في المدن وتتصاعد أعمال العنف في الشوارع بين الأحزاب السياسية الكبرى بسبب نقص الوقود وانقطاع الكهرباء، إذ من المتوقع أن يلوم كل طرف خصمه على معاناة الشعب. لكن قد لا يحبذ الجيش، الحَكَم النهائي في السياسة الباكستانية، إطلاق النار على الباكستانيين لسحق الاحتجاجات العنيفة.

تثبت تصرفات قادة باكستان أنهم يفتقرون إلى البصيرة الثاقبة، على غرار السياسيين في سريلانكا. لقد زاد اتكال باكستان على الصين بسبب المعارك المستمرة على السلطة وإصرار الجيش المتغطرس على عدم تغيير معايير السياسة الخارجية القائمة منذ عقود. في غضون ذلك، أدى دعم باكستان لبعض الجماعات الجهادية وحركة "طالبان" الأفغانية إلى إبعاد الحكومات الغربية وتراجع تواصلها مع بلدٍ كان في السابق حليفاً مقرّباً من الولايات المتحدة.

لكن بدل أن يُهمِل الأميركيون وشركاؤهم هذا البلد، من الأفضل أن يستعدوا لحالات الطوارئ المتوقعة بسبب الفوضى الاقتصادية والسياسية المحتملة في باكستان. يُفترض أن تترافق هذه التحضيرات مع اتخاذ أبسط الخطوات على الأقل لحماية باكستان من تداعيات الانهيار الاقتصادي التي تشمل توسّع موجة الهجرة وتطرّف الشعب الباكستاني.

لتجنب هذا المصير، يجب أن يتوصل قادة باكستان إلى إجماع حول إصلاحات طال انتظارها، مثل تخفيض نفقات الحكومة وإنهاء الرابط بين باكستان والإرهاب الجهادي. إنها خطوات ضرورية لجذب الاستثمارات الخارجية. كذلك، قد يسمح تجديد التجارة مع الهند (إنها خطوة مثيرة للجدل لكنها قد تغيّر قواعد اللعبة) بتخفيف الضغط عن التزامات الدفع الخارجية. لكن قبل هذه التحركات كلها، يجب أن تتعلّم باكستان أن تتقبّل حجم قدراتها بدل السعي إلى الهيمنة على المنطقة عبر الاتكال على الصين. قاومت الولايات المتحدة حتى الآن أي نزعة إلى زيادة استثماراتها للتفوّق على الصين في باكستان. قد يكون ضبط النفس الذي يتزامن مع إعادة تقييم السياسة الأميركية تجاه باكستان أفضل استراتيجية للولايات المتحدة وباكستان على المدى الطويل، فيضطر القادة الباكستانيون بدورهم لإعادة النظر بالأخطاء التي ارتكبوها.


MISS 3