تطوّر متزامن بين البشر وأمراض المناعة الذاتية

10 : 44

القدرة على محاربة الأمراض قوة دافعة لصمود البشر! يُعتبر الالتهاب سلاحاً أساسياً في هذه العملية. فيما تتغير مسببات الأمراض وتتطور، يتكيف جهاز المناعة مع الوضع ويحاول مواكبته. يظن الباحثون أيضاً أن تطور حمضنا النووي ساهم في نشوء أمراض المناعة الذاتية. لكن إلى أي حد شاركت هذه القدرات التكيفية والتطورية في نشوء أمراض مناعية ذاتية على غرار داء الذئبة (Lupus) ومرض كرون؟كان هذا السؤال محورياً في مراجعة جديدة أجراها عالِمان من جامعة "رادبود" في "نايميخن"، هولندا، ونُشرت نتائجها في مجلة "الاتجاهات في علم المناعة".لاستكشاف هذه المسألة، قام المشرف الأول على الدراسة خورخي دومينغيز-أندريس، باحث حائز شهادة دكتوراه في علوم الحياة الجزيئية، وميهاي نيتيا، رئيس قسم الطب الباطني التجريبي، بتحليل دراسات في مجالات علم الفيروسات، وعلم الوراثة، وعلم الأحياء المجهري، وعلم المناعة.

ركّز الباحثان على أشخاص من أصول إفريقية أو أوراسية وطريقة تأثير جذور أسلافهم على خطر الإصابة بأمراض المناعة الذاتية.كان لافتاً مدى ارتباط مسببات الأمراض في مختلف الجماعات بتغيرات الحمض النووي لدى المشاركين، وتحديداً عند وجود التهاب.اكتشف الباحثون أن التغيرات الجينية صعّبت انتشار الالتهابات المُسبّبة للأمراض. لكن مع مرور الوقت، يبدو أن الأمراض المرتبطة بالالتهابات، على غرار مرض التهاب الأمعاء ومرض كرون وداء الذئبة، نشأت تزامناً مع تحسّن الدفاعات المناعية.كذلك، تكشف النتائج أن جهاز المناعة البشري يتابع التطور والتكيف مع التغيرات التي تطاول البيئة وأسلوب الحياة.يوضح دومينغيز-أندريس: "ثمة توازن معيّن على ما يبدو. يتطور البشر لبناء دفاعات ضد الأمراض. لكننا لا نستطيع منع نشوء المرض، لذا تجعلنا المنافع التي نحصدها من جهة أكثر عرضة لأمراض جديدة من جهة أخرى. تميل أمراض المناعة الذاتية لدى البشر اليوم إلى الظهور في مراحل متقدمة من الحياة. ما كانت هذه الأمراض لتُسبب مشاكل صحية لدى أسلافنا لأن حياتهم كانت أقصر بكثير. الآن وقد طالت حياتنا بدرجة كبيرة، نستطيع أن نرصد عواقب الالتهابات التي كانت تصيب أسلافنا".

كانت الملاريا جزءاً من الأمثلة التي طرحها الباحثان بالتفصيل في مراجعتهما. من بين أمراض مُعدِية كثيرة، فرضت الملاريا برأيهما أكبر الضغوط التطورية على المجتمعات في أنحاء القارة الإفريقية.

الملاريـــا مرض ينقلـه البعوض ويجعل النـاس يمرضون بشدة ويواجهــون أعراضاً شبيهة بالإنفلونزا، مثل القشعريرة والحمى القوية. ورغم التقدم الحاصل للسيطرة على هذا المرض القاتل واستئصاله نهائياً، إلا أنه لا يزال يهدد حوالى نصف سكان العالم وفق منظمة الصحة العالمية.تنجم الملاريا عن طفيليات من فصيلة المتصورة، وتنتشر لدى البشر عبر لدغات أنثى بعوض الأنوفيلة المصابة بالعدوى.

يذكر دومينغيز-أندريس ونيتيا أن طفيليات المتصورة تصيب الناس في أفريقيا منذ ملايين السنين. خلال هذه الفترة كلها، طوّر جهاز المناعة لدى تلك الجماعات البشرية مقاومة أقوى تجاه العدوى من خلال زيادة الالتهابات. لكن مقابل تقوية الالتهاب لدرء الأمراض المُعدِية، تزيد المشاكل الصحية التي تنشأ في مراحل متقدمة من الحياة.

يكون البشر المعاصرون من أصول أفريقية أكثر عرضة لحالات مماثلة، منها تصلب الشرايين وأنواع أخرى من أمراض القلب والأوعية الدموية. يُعتبر التهجين المتبادل بين سكان أوراسيا الأوائل والبشر البدائيين مثالاً آخر على البصمات التي خلّفتها تغيرات الحمض النووي لدى أسلافنا في مناعة البشر المعاصرين. يحمل جينوم البشر اليوم بقايا من الحمض النووي الخاص بالبشر البدائيين ويستطيع جهاز المناعة لديهم الاحتماء من عدوى العنقوديات وفيروس نقص المناعة البشري (HIV-1). لكنهم أكثر عرضة للربو وحمى القش (Hay fever) وأنواع أخرى من الحساسية.

بفضل التقدم التكنولوجي الحاصل، من الأسهل اليوم اكتشاف السلبيات التي تترافق أحياناً مع طريقة تكيّف الجسم مع الأمراض لمحاربتها. تسمح تقنية التجزئة من الجيل المقبل للعلماء مثلاً باستكشاف ما يحصل على مستوى الحمض النووي بين مسببات الأمراض والكائنات الحية التي تنقل إليها العدوى.

لم تتحسن التكنولوجيا الجديدة في طريقة كشفها عن التغيرات الوراثية لدى أسلافنا فحسب، بل تثبت أيضاً أن المناعة البشرية تتابع التطور والتكيف.

في أفريقيا، تبحث القبائل حتى الآن عن الغذاء على طريقة أسلافها. وبفضل الأدوات الجديدة، يستطيع العلماء أن يلاحظوا مدى تنوع الجراثيم المعوية لدى تلك القبائل، مقارنةً بالأميركيين المعاصرين الذين ينحدرون من أصل أفريقي ويشترون المأكولات من المتاجر مثلاً. تأثّر الحمض النووي أيضاً بتحسّن النظافة الشخصية في القرون الأخيرة، ما يعني تراجع مستوى التعرّض لمسببات الأمراض وتنوع الجراثيم المعوية.

يوضح الباحثون: "برز رابط بين تراجع التنوع في البيئة الميكروبية في المجتمعات الغربية وزيادة "أمراض الحضارة"، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، والسكري، والبدانة، واضطرابات المناعة الذاتية. إنها حالات غير مألوفة في مجتمعات الصيد وجمع الثمار، مقارنةً بأسلوب الحياة الغربي".

يسعى دومينغيز-أندريس ونيتيا إلى توسيع أبحاثهما كي تشمل جماعات لا تنحدر من أصول أفريقية أو أوراسية.

يختم دومينغيز-أندريس قائلاً: "اليوم، نحن نعاني أو نستفيد من الدفاعات الناشئة في حمضنا النووي بعدما كان جهاز المناعة لدى أسلافنا يحارب الالتهابات أو يعتاد على أساليب الحياة الجديدة".


MISS 3