توفيق شمبور

هؤلاء يحكمون ويتحكّمون بتواطؤ سياسي وقضائي فاقع

البنكوقراطية اللبنانية... مسار صعودها وسبل تقويم إنحرافاتها

22 آب 2022

02 : 00

هل تكفي الاحتجاجات؟

* ميزوا بين المحظيين وغير المحظيين وأطفأوا خسائرهم على حساب المودعين

* دعا الرئيس عون الى اجتماع في بعبدا... فحصل أسوأ تدخل في عمل القضاء

* أسس سلامة مع كبار المصرفيين «تعاونية» سرعان ما توسعت لتضم آخرين

* مصالح واضحة لسياسيين وعائلاتهم في 18 من أكبر 20 مصرفاً في البلاد

* بعد 17 تشرين كشفت المصارف عن وجهها الحقيقي بممارسات تعسفية خيالية

* حاكم مصرف لبنان عصي على المساءلة... على قاعدة تمويل السياسي والاحتماء به




قانون النقد والتسليف عند صدوره كان، بشهادة الاخصائيين، مشروعاً متقدماً جداً اذا ما قيس الى القوانين العربية والاوروبية المنظمة لمهام مصارفها المركزية وصلاحياتها. ومع هذا فان السيد جوزيف اوغورليان اول نائب حاكم لمصرف لبنان، وهو من اشرف على اعمال اللجنة التي صاغت بنود هذا القانون، كان يردد باستمرار ان هناك حاجة، بعد انتهاء احداث سبعينات القرن المنصرم، الى ادخال تعديلات مهمة عليه بسبب القرار الاميركي الذي اتخذه الرئيس Nixon بفك ارتباط الدولار بالذهب، ما نقل العالم من نظام سعر الصرف الثابت الى نظام سعر الصرف العائم.



قوانين متفرقة وخطيرة



ما حصل لاحقاً كان صدور قوانين متفرقة ادت الى انحرافات متنوعة وخطيرة من اهمها التأسيس لقيام ما سماه المنتفضون في تشرين الاول 2019 "حكم المصرف"، ودعوا علانية الى اسقاطه. والكتابات اشارت الى ان المقصود هو "البنكوقراطية" او التحالف الوطيد بين المصرف المركزي والمصارف، والذي كان حسب اكثر التحليلات المتحفظة، من مسببات اندلاع الازمة.



قبل التسعينات وبعدها



حتى بداية التسعينات لم تكن "البنكوقراطية" قد تبلورت بشكلها النهائي. لا بل على العكس ظهرت خلافات حادة بين "جناحيها" مصرف لبنان وجمعية المصارف وصلت الى القضاء. حيث اقامت الاخيرة دعاوى ضد مصرف لبنان متهمة اياه بمخالفته القانون باصدار تعاميم ترفع من معدلات الاحتياطي الالزامي الواجب عليها تكوينه لديه بالليرة اللبنانية. وكان قصد مصرف لبنان من التعاميم المشكو منها تجفيف الليرة لدى المصارف للحد من قدرتها لاستعمالها في عمليات المضاربة ازاء الدولار. وذلك بمقاربة مختلفة للسياسة التي اعتمدت بعد التسعينات، حيث تم التركيز على استقطاب مصرف لبنان الدولارات بما فيها دولارات المودعين لتثبيت سعر القطع.



تضخم صلاحيات مصرف لبنان وحاكمه مع الوقت



ولوج العالم مرحلة نظام سعر الصرف العائم بداية السبعينات تطلّب تعديلاً في الممارسة في مجال السياسات النقدية. فحتى الدول الرائدة في تجهيز مصارفها المركزية باستقلالية كاملة في العمل كألمانيا وسويسرا نحت، على الصعيد العملي، الى اعتماد وسائل تواصل وتشاور مع السلطات السياسية قبل اتخاذها لقراراتها النقدية.



في لبنان هذا الامر لم يحصل اصولاً. بالرغم من ان الدستور ينص بشكل صريح في المادة 65 منه على ان مجلس الوزراء هو الذي يرسم السياسات العامة للدولة في جميع المجالات بدون اي استثناء.



من صور تفرد مصرف لبنان بالامر النقدي، اعلان حاكم مصرف لبنان الشيخ ميشال الخوري رسمياً التوقف عن التدخل في سوق القطع بعد نضوب موارد "صندوق تثبيت النقد". أمر فاجأ رئيس الحكومة آنذاك الرئيس عمر كرامي الذي استشاط غضباً من هذا القرار، خصوصاً ان احد نواب الحاكم كان قد زاره قبل اسبوع بالتحديد واعلمه ان الوضع النقدي في البلاد جيد وممسوك...؟



إطلالة الحاكم في نيسان 2020



وقبل عامين، في نيسان 2020، أعلن حاكم مصرف لبنان السيد رياض سلامة في اطلالة تلفزيونية مطولة من مكتبه، خصصها للرد على ملاحظات رئيس الحكومة السيد حسان دياب على اداء مصرف لبنان، ان الاخير التزم بسياسة تثبيت سعر الصرف عملاً ببيانات طلب الثقة للحكومات المتعاقبة منذ التسعينات الماضية. في ذلك تعبير واضح الدلالة ان السياسة النقدية لم تعتمد منذ التاريخ السابق بشكل اصولي وبالتحديد دستوري. اذ لم تناقش في المكان الذي يجب ان تناقش فيه وتتخذ بالنتيجة التوجهات العامة الواجب اعتمادها، على الاخص سعر الصرف الواجب استهدافه وسقوف تبدلاته، وهو مجلس الوزراء. أمر يسأل عنه رؤساء وجميع اعضاء الحكومات منذ التسعينات الماضية، وايضاً اعضاء المجلس النيابي ورئيسه.



الهندسات المالية: 22 ملياراً



كذلك الهندسات المالية التي تناقلت الاقلام انحرافات قانونية ومالية خطيرة شابتها، لم تعرض على مجلس الوزراء، ولو حتى بهدف اطلاعه مسبقاً على مسبباتها وتكلفتها العالية التي قدرت بما لا يقل عن 22 مليار دولار كمداخيل للمصارف حتى عام 2026. وهو أمر تنأى اشد المصارف استقلالية، اي المنصوص على استقلاليتها بالدستور كالألماني والسويسري، ولبنان ليس كذلك، عن فعله. والراجح ان تكون الامور قد سارت على الطريقة اللبنانية، اي الاكتفاء باطلاع الحاكم الرؤساء الثلاثة من دون اي نقاش علمي معمق بشأن هذه الهندسات في مجلس الوزراء.

على المقلب المصرفي تطورت الامور بمنحى مماثل، اي باتجاه تركيز المزيد من المهام والصلاحيات بيد مصرف لبنان وبالتحديد حاكمه.



فبعد ان كان تأسيس اي مصرف في لبنان يخضع لترخيص من الحكومة، ويستشار مسبقاً مصرف لبنان بالامر، تغيرت الامور ومنح الاخير صلاحية منح الترخيص المذكور.



إضافة صلاحيات مع الوقت



مع الوقت أضيفت الى مصرف لبنان صلاحيات جديدة كتنظيم وسائل وادوات الدفع. كما انشئت لديه هيئات اضافية مستقلة برئاسة حاكمه:

(1) الهيئة المصرفية العليا وهي هيئة قضائية مهمتها انزال العقوبات الادارية بالمصرف المخالف للقانون والانظمة

(2) هيئة التحقيق الخاصة وهي ايضاً هيئة ذات طابع قضائي مهمتها التحقيق في عمليات تبييض الاموال وتمويل الارهاب ومكافحة الفساد، واتخاذ القرار برفع السرية المصرفية وتجميد الحسابات

(3) هيئة الاسواق المالية ومهمتها المحافظة على سلامة الادخار الموظف في الادوات المالية وتنظيم وتطوير الاسواق المالية



وكان سبق للمشرع ان لحظ في القانون 2-67 انشاء لجنة برئاسة الحاكم لمتابعة اوضاع المصرف الذي يتوقف عن الدفع. وعندما قرر فصل مهمة الرقابة عن مصرف لبنان نتيجة ازمة انترا عاد وأجرى بعد حوالى الشهرين من انشاء لجنة الرقابة تعديلاً للمادة 188 قانون النقد والتسليف، قضى فيه بان حاكم مصرف لبنان ما زال معنياً بالرقابة الجزئية microprudentielle بشكل مواز للجنة الرقابة. اذ طالب التعديل مفوضي المراقبة ايداع الحاكم جميع التقارير التي ينظمها استناداً للمادة 187 عن اعمال المراقبة السنوية. وأجاز للحاكم مطالبة مفوضي المراقبة بتزويده بجميع المعلومات عن المصارف التي تراقبه.



إعتماد تفسيرات معينة



الى جانب ذلك اعتُمدت تفسيرات معينة لعدد من مواد قانون النقد والتسليف تمّ بمقتضاها توسيع صلاحيات الحاكم، منها على سبيل المثال المادة 33 من قانون النقد والتسليف التي تعدد صلاحيات المجلس المركزي لمصرف لبنان:

(1) بتحديد ووضع الانظمة في عدد من المجالات

(2) المذاكرة في مجالات اخرى من بينها الشؤون المتعلقة بعقارات المصرف وطلبات القروض المقدمة من القطاع العام وغيرها، بحيث رأى بان لا داعي في الحالة الاخيرة لأي قرار من المجلس المركزي وايضاً في ما يخص التدخل بسوق القطع وغيرهما.



إشكالية إقراض الدولة



وحيث ان الكلام قارب الاقراض للدولة، فمن المفيد التذكير بان المادة 90 من قانون النقد والتسليف تشير الى انه خلافاً لتسهيلات الصندوق، والتي تجيز المصارف المركزية المعاصرة اداءها للخزينة العامة، فان المبدأ ألا يمنح مصرف لبنان اي قروض للقطاع العام. لكن يمكن استثناء لهذا المبدأ اقراض الحكومة وهيئات القطاع العام في "ظروف استثنائية الخطورة او الضرورة القصوى" (المادة 91) وبمقتضى عقد يعرض على مجلس النواب لمناقشته واقراره (المادة 95).



آخر تطبيق للقواعد القانونية الآنفة الذكر حصلت ايام الحاكم السابق الشيخ ميشال الخوري، ومن بعده لم يسجل ابرام اي عقد اقتراض بين الحكومة او هيئاتها العامة ومصرف لبنان. إذ دأب مصرف لبنان على تمويل الحكومة متجاوزاً شروط المادتين 91 و 95 من الاموال التي جناها من المصارف، اي من اموال المودعين لدى مراسلي الاخيرة، ومن آخرين بنتيجة عمليات وصفها الرئيس الفرنسي الخبير بالامور المصرفية والمالية السيد Emmanuel Macron والامين العام للامم المتحدة السيد António Guterres بانها من قبيل الـ Ponzi Scheme. حيث اعتمد فيها مصرف لبنان معدلات فوائد مجزية على اصداراته وقروضه لتأمين استجراره للدولار باستمرار. وقد تمّ الدفاع عن هذه المعدلات، بانها تقارب في حينه تلك المعتمدة في اسواق مجاورة كتركيا ومصر وغيرها...



"سلطة" تمادت بابتداع قوانين وإتيان ممارسات استثنائية



(1) صدور قانون عام 1970 اجاز لمصرف لبنان تأمين التمويل للمصارف من خارج الاعراف المعتمدة من قبل المصارف المركزية المعاصرة. وذلك "في ظروف استثنائية الخطورة او في حالات الضرورة القصوى التي تتطلبها تلبية حاجات الاقتصاد الملحة للحفاظ على استقرار التسليف". وتكون التسليفات استثنائية ومؤمنة على قدر الحاجة بضمانات عينية من المصرف او من اعضاء مجلس ادارته او زبائنه". وقد سبقت الاشارة الى كيف تجاوز مصرف لبنان في تقديمه التمويل للدولة، ذات مبررات الظروف الاستثنائية، "الخطورة وحالات الضرورة القصوى" من دون اي رقيب او حسيب.

(2) انحراف مصرف لبنان في استعمال الاحتياطي الالزامي لممارسة عمل من اعمال السلطة العامة. وهو اعفاء المصارف من تكوين الاحتياطات المطلوبة بنسب معينة من قروض تمنحها الى فئات من الجمهور يحددها هو لا الحكومة او مجلس النواب.



الانحرافات الأخطر ارتكبت بعد 17 تشرين



بعد اندلاع انتفاضة تشرين الاول 2019، مارس مصرف لبنان انحرافات اخرى في منتهى الخطورة وتفوق كل خيال. فقد ترك في مرحلة اولى الامور لمطلق ارادة المصارف تستنسب ما تراه ملائماً لتحويل اموال المحظيين الى الخارج. ثم تدخل في مرحلة لاحقة بتعاميم وصفها احدهم من نوع "التعاميم الشيطانية"، لانها تخالف بشكل صريح وفجّ احكام الدستور. على الاخص ما تعلق منها بحماية الملكية الخاصة والمادة 307 من قانون التجارة التي تنص على استعادة المودع وديعته بقيمتها الحقيقية، وقانون النقد والتسليف وبالتحديد المادة 174 منه التي تم الاستناد اليها لاصدار قرارات هذه التعاميم. كما الاحكام القانونية التي ترعى اصول واجراءات تحديد سعر صرف العملة الوطنية لدى بورصة بيروت، وتستند الى تفسير قانوني مغلوط للمادة 7 من قانون النقد والتسليف، التي تتحدث عن قوة ابرائية للاوراق النقدية المصدرة عن مصرف لبنان (يراجع شرح مفصل عن المخالفات السابقة في مقال نشرته نداءالوطن في 25 تموز 2022 تحت عنوان "ممارسات المصرف المركزي تذكر بـالظريفين "ارسين لوبين" و "روبن هوود").



تعاميم مصرف لبنان أسست لان تفرض اقسى القيود على سحوبات وتحاويل المودعين غير المحظيين من حساباتهم بالدولار، مع اقتطاعات Haircut تبلغ الـ 70% من هذه السحوبات. وذلك بتثبيت سعر الصرف على 1507 ل.ل للدولار الواحد وتمكين المودع من سحبه من المصرف على اساس 3900 ل.ل اولاً ثم 8000 ل.ل للدولار الواحد ولاحقاً 12000 ل.ل. في حين ان سعر صرفه لدى "صيرفة" التي انشاهأ ويديرها مصرف لبنان تجاوزاً هو بحدود الـ 26000 ل.ل بتاريخ كتابة المقال. وقد تجاوز هذا السعر الـ 32000 ل.ل في السوق الحرة الموازية.



الفروقات بين سعر الصرف على 1507 ل.ل للدولار الواحد واسعار الصرف الاخرى استعملت لاطفاء التزامات المصارف تجاه المودعين من جهة، وتضييق فجوة الخسارة المسجلة في حسابات مصرف لبنان من جهة اخرى، خلافاً لتوجهات بنك التسويات الدولية الــ BIS التي ترفض اطفاء خسارة اي مصرف مركزي من خلال طباعة العملة بسبب الآثار التضخمية للامر.



الإنحرافات السابقة أسست في مرحلة لاحقة الى السماح بفتح حسابات بالـ fresh dollar. والهدف المعلن اعادة اطلاق العمل المصرفي بودائع جديدة ما سمح باعادة المحظيين او بعضهم ممن سربوا اموالهم الى الخارج لهذه الاموال الى الحسابات المذكورة، لاستعمالها بكل حرية ومن دون اي قيد بعكس اقرانهم من غير المحظيين.



تلكؤ القضاء



وكان هناك تلكؤ من القضاء الاداري في ابطال الانحرافات المرتكبة. فبعد ان اصدر مجلس شورى الدولة قراراً بتعليق العمل بأحد تعاميم مصرف لبنان (التعميم 151) نتيجة الطعن به، دعا رئيس البلاد الى اجتماع عقد في قصر بعبدا في 3 حزيران 2021 خلص الى تجميد القرار المذكور في اسوأ تدخل في عمل القضاء. ولتاريخه لم يبت مجلس الشورى بالطعن على خطورته الفائقة واهميته للعباد.



عراقيل إضافية



وقبل ذلك حصلت عرقلة بتنفيذ طلب صندوق النقد الدولي اجراء تدقيق جنائي في حسابات وعمليات مصرف لبنان بحجة السرية المصرفية.

مؤخراً كاتب حاكم مصرف لبنان رئيس الحكومة، لافتاً إياه بان قانون الشراء العام، الذي صدر أخيراً واخضع جميع مشتريات ومناقصات القطاع العام للتدقيق من قبل لجنة خاصة قبل الموافقة عليها، يخالف قانون النقد والتسليف بالتحديد المادة 13 منه، التي تتحدث عن استقلال مالي للمصرف وعدم خضوعه للرقابات التي تخضع لها مؤسسات القطاع العام. داعياً الى تعديل قانون الشراء للحفاظ على الاستقلالية المذكورة علماً ان القانون المشكو منه استثنى عمليات طباعة النقد وتحويله من احكامه.



تضخم سطوة المصارف تدريجياً مع الوقت



حددت الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف اطار العلاقة بين المصارف ومصرف لبنان. فذكرت التالي: "إن كل مصرف مركزي عليه أن يستوحي في عمله المصلحة العامة التي تستوجب غالباً الإهتمام بالاعتبارات البعيدة المدى، بينما يكون من الطبيعي ان تهتم المؤسسات الخاصة لا سيما المصارف أولا بمصالحها الشخصية والفورية · فالمهم إذا ألاّ يتسنّى لهذه المؤسسات أن تؤثر على قرارات المصرف المركزي حتى ولا أن تقف عليها مسبقاً · إنّما هذا لا يعني مطلقاً أن ليس لها الحق في إسماع صوتها كما أنّه لا يعني أن يمنع المصرف المركزي من استشارتها أو إطلاعها على نواياه إذا رأى ذلك مناسباً· إن ما ينبغي تجنبه هو أن يكون لذوي المصالح صوت في اتخاذ القرارات المعدّة لأن تطبّق عليهم او أن يكون لهم حق علم بها قبل وضعها موضع التطبيق".



قانون تمويل المصارف!!



على الصعيد العملاني، التطور المهم حصل في السبعينات الماضية بصدور قانون اجاز لمصرف لبنان، كما اشرنا اعلاه، تأمين التمويل المباشر للمصارف لقاء ضمانات محددة من خارج القوانين والاعراف المعتمدة عادة من قبل المصارف المركزية. وكان الامر اكبر هدية لللوبي المصرفي. واعتُبر نتيجة متوقعة لوضع المصارف تحت المظلة التنظيمية لمصرف لبنان. ذلك ان اي اخفاق او تعسر يصيب احد المصارف سيسجل في الوضع الجديد على انه نتيجة لاخفاق مصرف لبنان في مكان ما. وسيعمد الاخير بكل الوسائل الى ابعاد هذه الشبهة عنه بما في ذلك تقديم التسهيلات التي يحتاجها المصرف المعسر. لاحقاً تطورت الامور الى ارساء "تعاونية "ضيقة في البداية بين مصرف لبنان وعدد محدود من قادة المصارف اسست لهندسات مالية متنوعة. تبادل فيها الاطراف شتى انواع القروض والعمليات ما حفز المصارف الاخرى الى الانضمام اليها لاحقاً وتدريجياً.



ورقة الحكومة للتعافي المالي ركزت على شوائب التمويل السهل الذي قدمه مصرف لبنان للخزينة. واغفلت الاقراض الذي قدمه الاخير للمصارف وشوائبه. وكان من المفروض ان تظهر ارقام حجم هذا الاقراض في تقرير العمليات المشار اليه في المادة 117 من قانون النقد والتسليف. لكن هذا التقرير لا ينظم منذ انشاء المصرف على وجه يتم فيه التعرض بالتفصيل وبالتحليل لشتى عمليات مصرف لبنان، كما حددها القسم الثامن من قانون النقد والتسليف من المادة 81 حتى المادة 111 ضمناً.



ترسيخ سلطة المصارف وتشابك المصالح بينها وبين السياسيين



فانحرافات المصارف صانها تشابك مصالح قوية بينها والسياسيين تناولته جريدة الـ"واشنطن بوست" بتاريخ 21 تشرين الاول 2021 بمقال معنون "لماذا لا يستطيع قادة لبنان إصلاح أزمته الاقتصادية". فذكرت ان من بين المصارف اللبنانية 20 فقط لديها إجمالي ودائع تفوق المليار دولار. وتمتلك هذه المصارف الـ20 حوالى 99% من أصول المصارف الموحدة، ما يشير الى ارتفاع تركيز السوق، 18 منها لديها مساهمين رئيسيين مرتبطين بالنخب السياسية، و 43% من أصول القطاع تعود إلى أفراد وعائلات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسياسيين. من جهة اخرى تسيطر ثماني عائلات سياسية على 32% من إجمالي أصول القطاع المصرفي التجاري.



من إفرازات التشابك المصرفي السياسي توقيع احد المسؤولين بيد على قانون الاجازة للحكومة بالاقتراض، واعطاء الامر بتوقيع اليد الاخرى لمسؤولي مصرفه يطالبهم فيه بالاكتتاب باصدارات هذا الدين العام. ايضاً كان هناك ترشح للانتخابات النيابية من قبل رئيس مجلس ادارة مصرف، بالطبع للحصول على الحصانة النيابية في حال اثارة نزاع قضائي بوجهه. وتناقلت وسائل الاعلام والتواصل، عن الأخير، الذي حُجز مصرفه لأموال المودعين خلال الأحداث، خبر شرائه شقة فخمة في نيويورك بملايين الدولارات من ممثلة اميركية وقبل ذلك شراء يخت فخم وتأسيسه لأربع شركات في بريطانيا، اضافة لتسهيل تحويل ملايين الدولارات عائدة لنجل مسؤول رفيع، قسم منها كان بالليرة اللبنانية وتم بها شراء الدولار بعد اندلاع الازمة على سعر 1500 ل.ل، ومن ثم اجراء التحويل للخارج. وكان قد سبق لرئيس المصرف المذكور ان شغل منصب وزير دولة في حكومة سابقة محتفظاً بذات الوقت بمنصبه في رئاسة المصرف!!!



أيضاً كان هناك توجه من قبل عدد المصارف للاستعانة بعدد من نواب الحاكم واعضاء لجنة الرقابة على المصارف المنتهية ولايتهم لضمهم الى عضوية مجالس ادارتها، او تكليفهم بمناصب ادارية تنفيذية عليا او غيرها للاستفادة من خبراتهم. ولتقديم صورة دعائية بان هناك التزاماً من قبل هذه المصارف بقوانين وقواعد وانظمة العمل المصرفي الموضوعة من مصرف لبنان.



كشفت وجهها الحقيقي



مع اندلاع انتفاضة تشرين الاول 2019 انقلبت الامور رأساً على عقب، فغابت عن الدعايات الاعلانات المصرفية الموجهة للمواطن من نوع "مصرفك بقربك" و"عليك الفكرة وعلينا التمويل" وغيره... وحلت محلها ممارسات مصرفية استنسابية وتعسفية تفوق الخيال. وتخالف بشكل فجّ ليس فقط القانون بل ابسط ادبيات ethics التعامل المصرفي كاشفة عن الوجه الحقيقي لمن استودعوا اموال ومدخرات الناس، فاساؤوا استعمالها وقامروا بها، مستغلين فوضى الانهيار المالي لتحقيق افضل الارباح ان لم نقل ابشع الاختلاسات.



ما شجع المصارف على ما سبق هو تقاعس القضاء، ما عدا قلة معدودة وواعدة منهم اغلبها من القضاة السيدات، عن اصدار الاحكام القضائية الزاجرة وبالسرعة المطلوبة، كما فعلت محاكم اجنبية مع مودعين لبنانيين خاصموا مصارفهم امامها.



أيضاً كان هناك غض طرف من جانب مصرف لبنان. فقد كان بامكانه ان يأخذ المبادرة منذ البداية فيمنع تحويلات المصارف الاستنسابية للخارج لمصلحة المحظيين عملاً بالمادة 174 نقد وتسليف. كما كان بامكانه وأد ممارسات المصارف الاستنسابية في رد الودائع الى اصحابها منقوصة، خلافاً لما تقضي به المادة 307 تجارة. ولكنه اصدر تعاميمه المخالفة لهذه المادة التي اكدت الممارسات السابقة بتعاميم تقتطع حوالى الـ 70% من السحوبات.



وعندما تخلفت مصارف عن اعادة تكوين رأسمالها تنفيذاً لتعميمه رقم 154 واستمر مسؤولوها بالتصرف على هواهم في اموال ومدخرات المودعين من دون اي حق، لم يقم مصرف لبنان بما يتعين عليه عمله باحالة المصارف المخالفة ومسؤوليها امام الهيئة المصرفية العليا سنداً للمادة 208 نقد وتسليف لانزال العقوبات الادارية واهمها: منع المصرف المعني من القيام بعمليات معينة او فرض تحديدات على عملياته، كما تعيين مراقب و/او مدير مؤقت يؤمنان انتظام العمل بشكل سليم في المصرف لحين اتخاذ القرارات النهائية، كما فعل المسؤولون في ايسلندا من الايام الاولى لاندلاع الازمة المالية في بلدهم.



يجب إخضاعه لديوان المحاسبة



جدير بالذكر ان عدداً من الكتابات والمقالات الاصلاحية، ومن بينها كتاب صدر عن الدكتور مروان النصولي نائب حاكم سابق لمصرف لبنانـ تطالب باخضاع الاخير بجميع عملياته وقراراته من دون استثناء لرقابة ديوان المحاسبة، كما هو الامر بالنسبة لعدد من المصارف المركزية الاوروبية. ففي فرنسا مثلاً قرارات الديوان لا تتناول فقط سلامة القيود والعمليات جميعها، بل ايضاً تقييماً للقرارات المتخذة من قبل ادارة مصرف فرنسا واحياناً انتقادات حادة لها.

ذات الامر بالنسبة للمصرف المركزي الاوروبي حيث يوجه ديوان المحاسبة الاوروبي، من وقت لآخر، كتباً الى ادارة المصرف يدعوها فيها الى توجهات معينة فضلى في عملياتها وقراراتها. والاساس في كل ذلك ان لا سرية على المال العام وضرورة ادارة المصرف المركزي بالطريقة الفضلى.


بداية الاصلاح من اعادة هيكلة البنك المركزي ولجنة الرقابة على المصارف



يؤثر عن السيد Mayer Rothschild مؤسس اكبر امبرطورية مصرفية في العصر الحديث قوله التالي: "اعطني صلاحية اصدار ورقابة النقد في دولة ما، وسترى كيف سأتجاوز من يضع القوانين فيها"؟

كلام يلخص واقع البنكوقراطية اللبنانية، فالمصرف المركزي يصدر الاوراق القانونية النقدية monnaie fiduciaire والمصارف النقود المصرفية المشتقة بالعملتين المحلية والدولار monnaie scripturale. وقد سبقت الاشارة الى كيفية تجاوز الاثنين محرمات وقيود دستورية وقانونية من دون اي رادع.

فالحاكم عصي عن اي مساءلة accountability من النوع الذي يخضع لها الحكام في الدول المتقدمة. وتحكمه معادلة لبنانية لخصها احد المسؤولين السياسيين بالتالي "السياسي يعين المالي ويحميه، والمالي يمول السياسي ويحتمي فيه"، وعين المالي في ذلك على كرسي رئاسة الجمهورية.

أما المصارف فآخر تجليات سطوتها اجهاضها لخطة التعافي المالي لرئيس الحكومة السابق السيد حسان دياب، والضغط لتضمين مشروع قانون الكابيتال كونترول احكاماً تمنع الملاحقة القضائية للمخالفات المرتكبة قبل صدوره، وايضاً لتضمين قانون تعديلات السرية المصرفية حالات اقل وقيوداً اشد لرفع هذه السرية.

إن أي انطلاقة سليمة لمعالجة الازمة النقدية والمالية يجب ان تبدأ بتقويم انحرافات البنكوقراطية في لبنان. ونقطة الانطلاق الاولى اعادة هيكلة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، توطئة لاعادة هيكلة المصارف.

والاقتراح في هذا المضمار حصر المهمة الاساسية لمصرف لبنان باستقرار النقد. وتكليف هيئة مصرفية مستقلة بمهام التنظيم والرقابة والاشراف على المصارف، اسوة بما هو معتمد في الدول الرائدة في تحقيق استقرار نقدها ومصارفها على السواء. فكل اشغال لمصرف مركزي بغير مهمة استقرار النقد هو تأسيس مستقبلي للازمات وتمويه للنجاحات والاخفاقات والمسؤوليات. هذا ما يسمعه زائر المصرف المركزي الالماني الـ Bundesbank من قادته الذين يفاخرون باستقلالية مصرفهم المدعمة جغرافياً. فمقر مصرفهم في Frankfurt، ومركز الهيئة المعنية باستقرار النظام المصرفي والمالي ومؤسساته الـ Bafin في Berlin. ذات المنحى انتهجته سويسرا وانكلترا وبلجيكا...

الاقتراح الآنف الذكر لو كان معمولاً به في لبنان لما كان للازمة وبكل تأكيد ان تندلع، فالهيئة المصرفية المقترح انشاؤها ما كانت لتسمح للمصارف ان تنحرف وتنصاع لاغراءات فوائد المصرف المركزي وتوظف القسم الكبير من مواردها، على الاخص ودائع مودعيها لدى الاخير، ليستعملها في تثبيت سعر القطع واسترضاء الحكم بتقديم التمويل السهل له. لانها، اي الهيئة، ستكون كمن تقامر بمهنيتها ومصداقيتها ومناقبيتها من اجل لا شيء. والانحراف الذي اسس لاندلاع الازمة في لبنان حصل لان مصرف لبنان جمع لديه بآن واحد سلطتي القرار في الشأن النقدي والتنظيم المصرفي؟

أمر آخر على ذات القدر من الاهمية لمح اليه البروفسور Daniel Tarullo استاذ القانون في كلية الحقوق في جامعة Harvard والعضو السابق في حاكمية المصرف المركزي الاميركي الـ FED بخصوص اعادة هيكلة المصارف، فبرأيه ان الامر المهم ليس التركيز فقط على اعادة تعزيز الوضع المالي للمصرف من خلال اعادة تكوين رأس المال والمراكز المالية الاساسية، بل على سوء السلوك الاداري للقيمين على ادارة المصرف، اذ يتعين التدقيق في ارتكاباتهم وانحرافاتهم ومنعهم من ممارسة العمل المصرفي مجدداً، بل ملاحقتهم قضائياً عند الاقتضاء. وهذا الامر هو عنصر اساسي في استعادة الثقة وقد اختطته بجدارة السلطات في ايسلندا فاعادت بلادها بسنوات معدودة بعد اندلاع ازمتها اواخر عام 2008 الى خريطة المراكز المالية الموثوقة.


أين اللجنة الاستشارية؟



عملاً باطار العلاقة الآنف الذكر نصّ قانون النقد والتسليف في المادة 35 منه على انشاء لجنة استشارية من 6 اعضاء، 4 منهم يتمّ اختيارهم على اساس خبرتهم في المجالات التالية: المصرفية، التجارية، الزراعية والصناعية، وواحد من مجلس التصميم والآخر استاذ اقتصاد جامعي.

يستشير الحاكم اللجنة في القضايا العامة المتعلقة بسياسة النقد والتسليف، ويمكن للجنة أن تقدم للحاكم الدراسات والاقتراحات عن الاوضاع الاقتصادية، بما فيها انماء الودائع وتوسيع استعمالها وضمانها وغيره.


توقف تعيين اللجنة منذ اكثر من اربعة عقود. واستعيض عنها باجتماعات شهرية ودورية للحاكمية وممثل عن لجنة الرقابة تعقد مع المصارف فقط. ويصدر عنها بيانات مقتضبة. فكان الامر خطوة في ارتقاء المصارف لوحدها دون الآخرين درجات التسلق نحو المشاركة في قيادة الامور الاقتصادية العامة.


وكان قد سبق ذلك خطوة تمت في الستينات الماضية بمقتضى القانون 28، الذي قضى بانشاء لجنة للرقابة على المصارف وهيئة مصرفية عليا. ونص على تعيين عضو في الاولى تقترحه جمعية المصارف هو ايضاً وحكماً عضو في الهيئة المصرفية العليا.



دولة في دولة


أفضل من عبر عن الواقع الذي انتهى اليه مصرف لبنان عنوان مقال ظهر في جريدة الـ Le Monde الفرنسية بتاريخ 30-11-2020 هو التالي:

" المصرف المركزي في لبنان (دولة في دولة) قابعة بالعتمة ولا يمكن المساس بها"


MISS 3