منير يونس

لا نهوض يرتجى على أيادي من تسببوا بالأزمة وتربحوا منها منذ التسعينات

لا يكتمل الإصلاح الإقتصادي من دون سلّم قيم وإصلاح سياسي

22 آب 2022

02 : 00

منصور بطيش

* نموذج بعد الطائف سقط إلى غير رجعة... كان بذهنية وصاية وميليشيات ومركنتيلية ريعية

* ضرورة ملحة لتغيير الذهنية والسلوك وإعادة الاعتبار لرسالية التجربة اللبنانية الفريدة

* تجديد العقد الاجتماعي بما يحاكي الحداثة ويزيل خوف اللبنانيين (افراداً وجماعات) من الغد

* التهرب من طرح اللامركزية الادارية والمالية الموسعة... لا يقل خطورة عن التقسيم والفدرلة

* أسئلة حول محاولات تفخيخ تعديل قانون السرية المصرفية كي تكثر فيه وحوله التفسيرات!

* يحاولون تضييع المسؤوليات... فتمويل الكهرباء كان من اليوروبوندز وليس من ودائع الناس


في الحوار مع الوزير السابق، المصرفي والاقتصادي منصور بطيش، ثمّة توقّف طويل أمام الأزمة بأبعادها المختلفة. فقبل الحديث عن الانهيار الاقتصادي، يقول: لا تُبنى الدول ومؤسساتها على المناكفات والنكايات والمهاترات والاتهامات المتبادلة، ولا على السُّباب وما يسمّونه شدّ العصب وتسجيل المواقف، بل تُبنى استناداً الى مشروع وطني متكامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية، واعتماداً على سلّم أخلاق وقيم. علينا أن نتعلّم ونعلّم أنّه لا يمكن بناء دولة حديثة بسياسات خبيثة وممارسات رخيصة!

ويضيف: وطننا انهار اقتصاده وما زلنا نعيش الإنكار الكبير. وفي السياسة هناك تكاذب متبادل أوصلنا الى هذا الدّرك، علماً أنّ أهمّ المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لا تتوانى عن نشر تقارير بين الحين والآخر تؤكد أنّ ما حصل هو إفقار متعمّد للشعب اللبناني.

رغم ذلك، يؤكد بطيش أن ما من أحد من منظومة المتحكّمين، في السياسة والمال والنّقد والقضاء والأمن، يتوقّف أمام هذه التقارير والإنذارات الأمميّة التي تمرّ عليه مرور الكرام. في المقابل، يتوقّفون أمام خبر أو تصريح خلافي صغير وتافه، ويسلّطون الضوء عليه، ويسترسلون في تحليله تضخيمه، وهذا لم يعد جائزاً بتاتاً، لأنّ لبنان، كما أيّ دولة، لا يُبنى إلا على المصارَحة وصولاً الى المصالحة مع ذاتنا وبين بعضنا البعض، والى التكاتف الوطني والتعاضد الاجتماعي، خصوصاً في هذه الأوقات العصيبة. وفي ما يلي نصّ الحوار: 

 



هل الأزمة، برأيك، أبعد من الانهيار الاقتصادي؟

إنّ أزماتنا المُتناسِلة ليستْ انهياراً اقتصاديّاً وحَسْب، بل هي مُعطوفة على انهيار أخلاقي، وانهيار في سلَّم القيَم أيضاً.

وما يزيد الأمر تعقيداً أنّنا نعيش بين مجموعات مُتناحِرة من العقائديّين الغارِقين في الماضي، والغوغائيّين الديماغوجيّين، والنَفعيّين أصحاب المصالِح الخاصّة: نحن في حضرة هَيمَنات الإيديولوجيا والديماغوجيا و»المَصلَحوجيا» (إذا صحَّ التعبير).

لبنان يحتاج الى تغيير جِذري في الذِهنيّة وفي النَهج على كافة الصُعُد، سيّما وأنَّ ما حَدث، وَفقاً للبنك الدولي، هو مِن الأخطر في العالم مُنذ العام 1857 أي مُنذ نحو 165 عاماً!

إذا لَم نُسرِع الى التوافُق على تجديد العَقد الاجتماعي الوطني، أخشى أن نكون في مرحلة تحلُّل ليس فقط مؤسَّسات الدولة بلْ أيضاً مرتَكزات المُجتمع الاساسيّة. وما الحديث اليوم عن رئيس جديد للجمهوريّة إلّا بحثٌ من دون هدَف واضح، لأنّنا يجب أن نعرف أيّ دولة نطمَح إليها لنُحدّد أيّ رئيس نريد، وبأيّ صيغة عَيش ووَفق أيّ عَقد اجتماعي. نحنُ نُريد إعادة الاعتبار للتجربة اللبنانيّة بتجديد العَقد الاجتماعي بين اللبنانيّين على أسُس متينة وراسخة وبما يُحاكي الحداثَة ويُزيل القلَق والخوف من الغَد، فيتطلّع الجميع أفراداً وجماعات على مستقبلهم في وطنِهم بأمل وثِقة. هذا فضلاً عن سؤال مهمّ جدّاً تتعيَّن الإجابة عنه، مُتعلِّق بأيّ دورٍ للبنان وبناءً على أيّ خصوصيّات وميزات تفاضليّة وقيَم حضاريّة؟

لذا، لا يمكِن الحديث عن الاقتِصاد وأزمته فقط، بمعزِل عن البحث بعُمق في أزمة النموذج بابعاده السياسيّة والاقتصاديّة والاخلاقيّة وبالتالي، بالذين يتولَّون سُدّة المسؤوليّة في إدارة شؤون الحُكم.

لكن يبدو أن بعض الممارسات تكرّس أن الرئيس محكوم بالتحاصص... هل توافق هذ الرأي؟

إنَّ قوّة رئيس الجمهوريّة تكمُن برأيي في أن يكون مُنزّهاً ومُترفّعاً بعيداً عن منطِق الحُصَص والتحاصُص. لكنّه رأس الدولة المُفترَض به أن يعرِف بكلّ أمورها وأن يكون مطَّلِعاً وفاعِلاً في كُلّ مفاصلها وقطاعاتها. ولا يجب حَصر الرئيس بحصّة وزاريّة، فهو معني بكل وزير لأنه رأس كُلّ السلطات وفوق الجميع، يسأل ويسائل، وهو الوحيد الذي يستمِدّ قوَّته من قسَمه الدُستوري.

لنَعُد إلى التعاطي الذي كان سائداً في الماضي، بين الرئيس فؤاد شهاب ورئيس الحكومة رشيد كرامي، وبين الرئيس الياس سركيس ورئيس الحكومة سليم الحصّ، على سبيل المِثال.

وقتذاك، كانت صلاحيّات رئيس الجمهوريّة واسعة، لكنّ رئيسَي الجمهوريّة والحكومة كانا متعاونَين بمُقتضى النَصّ الدستوري وثقافة العمل السياسي في تلك الحِقبة المختلفة عَمّا أرسَته مرحلة ما بعد الطائف التي تطبّعت بذهنيّة الوصاية والميليشيا والمركنتيليّة الرَيعيّة.

في ظلِّ أزمة كالتي نحن فيها، على رئيسَي الجمهوريّة والحكومة مواصلة الاجتماعات ليلاً نهاراً لحلّ المشكلات وإيجاد الحلول بعيداً عن المصالح والشعبويّات ودون أن يتأثّرا بأيّ ضُغوط مصلحيّة من أحَد أيّاً كانَ. لَم تعُد شعارات الطبقة السياسيّة تستقطب كثيراً من الشباب اللبناني المتَطلّع الى خطاب جديد يواكب اهتماماته ويلحق برَكب الحداثة بعيداً عن العصبيّات الصغيرة.

هل تَقصُد بأنّ المشكلة هي علاقات شخصيّة؟

بصراحة، يكثُر الكلام راهِناً عن مواصفاتٍ للمُرشّحين لرئاسة الجمهوريّة، لكِنَّ الأصحّ هو في إرساء مواصفاتٍ ومقارباتٍ جديدة للعَمَل الوَطني، وممارساتٍ مختلفة للسياسيّين بعيدة عمّا نعيشه منذ سنوات، وفي تطوير الأُطر الدستوريّة لإزالة الالتباسات، بحيث ينتظِم بشكلٍ أفضل عمل المؤسّسات بمَوجب النصّ الصَريح وتتوثّق أواصر التعاون بين رئيسَي الجمهوريّة والحكومة وبين مختلف السلطات.

ما قيمة السياسة من دون اقتصاد واجتماع وتربية وقيَم مشتَركة؟ ما معنى التنظير في السياسة والاقتصاد والناس تُهاجر؟ والجريمة الأكبر يرتكبها من يعمَد الى شدّ العصَب من كُلّ الطوائف والأحزاب. لقد نسوا أن من ساس القَوم يُفترض به أن يكون من رعى مصالحهم وأدارها على أفضل وجه. السياسة هي فنّ حكم المجتمعات، وفنّ تسيير شؤون الناس وتوجّهات المجتمع وتفاعلاته بين أفراده. أين نحن من هذا؟ إنّهم يتناحرون طوال الوقت قافِزين فوق الأهداف السامية للسياسة.

هل تعني أننا في في ازمة نظام لأسباب طائفيّة؟

نحن في أزمة قيَم بالدرجة الأولى. وأنا لا أقبَل حَصر تشخيص أزمات النظام والكيان بصراعات طائفيّة، كما يحلو للبعض القَول. واسأل: هل هناك اضطِّهاد ديني لنتحدَّث عن مشكلة طائفيّة؟ أم أنّها مشكلة سياسيّين نفعيّين يتلطّون ببعض «الطائفيّات» لأغراضهم الخاصّة؟

وهل ما يُفرِّقنا عن بعضنا كمواطنين هو الأديان ومذاهبها أم المتَسلّطون باسم الطوائف والمذاهب على السياسة والإدارة والاقتصاد والمال والقضاء والأمن؟

هل الحلّ ينحصر بالاتفاق مع صُندوق النَقد الدولي؟

البرنامج المتَوقّع مع صُندوق النَقد الدولي هو جُزء من المشروع الذي نتحدّث عنه للإنقاذ والخلاص. هو الشقّ الاقتصادي الخاص بالإصلاح والحَوكمة. لكنّه لا يكفي إنْ لم يترافَق مع مشروع سياسي اجتِماعي وقيَمي. الاتّفاق مع الصندوق يساعدنا لأنّه المُقرِض الأخير الذي لا بُدّ منه، لكنّه لنْ يستطيع مساعدة لبنان إن هُو لم يُساعد نفسه.

عندما يُقرِض الصُندوق، ويُساعد على توفير أموال من أطراف دوليّة أخرى، فإنّه يريد أوّلاً أن يَطمئن إلى أنَّ هذه الأموال ستعود لمانِحيها بعد حين، مع الإشارة إلى أنّه لا يمكن الالتِزام والوفاء بالديون من دون بناء دولة الإنتاج ومكافحة الفساد وبعيداً عن التكاذُب والإنكار، وإلّا فالمحاولات تُصبِح عبَثيّة، وهذا ما يقوله صراحة العديد من المسؤولين الدوليّين.

إذاً، لا يمكن الاستمرار من دون شفافيّة ومن دون مَنع أيّ هيمنة وتَسَلّط على الناس ومقدّرات البلاد. كَفى كذباً في الحديث عن لبنان الرسالة والعيش المشترك، وهي أهداف سامية، في حين يُمارس مُعظم القيّمين على الشأن العام خلاف ذلك يَوميّاً.

في أي سياق تُدرِج الانهيار الاقتصادي والمالي؟

إنهيار الاقتصاد جُزء من تفَكُّك سلَّم القيَم، وقد أسفر ذلك عن تغيير وجه لبنان بعد الإفراط بالعيش في اقتصاد الاستهلاك والرَيع والاستِدانة. وعندما نتحدّث عن الرَيع، فهو ليس فقط بالمفهوم المالي، بَل أيضاً بالفكري والاخلاقي، وبمفهوم عدم الإنتاجيّة. تُضاف إلى ذلك، مشكلات كثيرة أُخرى ليس أقلّها الآثار المزلزلة للنزوح السوري الذي أُضيف إلى اللجوء الفلسطيني والذي لم نتعاطَ معه بجديّة وبحسّ المسؤوليّة الوطنيّة...

بِناءً على كُلّ ما سبق، يجدر العمل على وثيقة سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة متكاملة، واجهتها الدولة المدنيّة العلمانيّة العادلة المتصالحة مع مجتمعها ومحيطها والتي تُحاكي الحداثة لاستقطاب الشباب من كُلّ الطوائف، إذ لا ينحصِر الفقر والتعتير والهِجرة بمنطقة دون أُخرى ولا بطائفة دون أُخرى؟

ولا تكتمِل الوثيقة إلّا بطَرح خطّة دفاعيّة لحماية لبنان، وبالتأكيد على ضرورة اعتِماد اللامركزيّة الإداريّة والماليّة الموَسّعة التي أقرّها إتّفاق الطائف في تشرين الاول 1989. إنّ تَهرُّب البعض من البحث الجدّي في مشروع اللامركزيّة لا يقلّ خطورة عن حديث البعض عن التقسيم والفَدرَلة. نريد إرساءً أصلَب للديمقراطيّة وحمايةً أفضَل للحرّيات، في دولة مدنيّة بكلّ مُندرجاتِها، لا تصطَبغ بهذا اللون أو بذاك؟

هل باستطاعة اقتصاد لبنان أن يتحوّل سريعاً إلى مُنتج؟

النظام الاقتصادي المُنتج ليس جديداً على لبنان. كان موجوداً في خمسينات وستّينات وأوائل سبعينات القَرن الماضي. آباؤنا وأجدادنا أسّسوا له وعملوا بموجبه، فكان لبنان يُصدِّر 60 الى 70%؜ ممّا يستورد من سِلَع، وكان بلدَ السياحة والخدمات بامتياز. أَينَ نحن اليَوم؟ ماذا فعلوا بِلبنان مُذّاك وماذا جلَبوا للشعب غَير الحروب والفقر والهِجرة ؟ لَقَد تحوَّلنا في آخر 30 سنة الى نظام اقتصادي شبه احتِكاري ورَيعي غير مُنتج، في ظلّ تكتيكات سياسيّة قاتلة وغياب للرؤية الاستراتيجيّة الوطنيّة الجامعة. المناورات التكتيكيّة هي تآمر على الناس وتدمير للمجتمع وتأبيد للأزمات. لذا، فإنّ الاصطفافات الحاليّة عقيمة، والحلول المرحليّة المؤقّتة لا نفع منها، وصارت الحاجة ماسّة الى مشروع وطني متكامل.

علينا الخروج من الإنكار الى الإقرار بالحقائق ومِن ثمَّ إتّخاذ القرار. الأنكى، أنّنا ما زلنا في الإنكار. والسؤال المتَّصل بالأزمة هو: ماذا أنجزَت السُلطتان التشريعيّة والتنفيذيّة في خلال 3 سنوات من أزمة طاحنة غير مسبوقة؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا قانون للكابيتال كونترول ولا خطّة تعافٍ حتّى الان! وماذا فعَلت السُلطة القضائيّة في مجال مكافحة الفَساد ولَجم المُفسِدين وكشف الحقائق في الجرائم الماليّة وجريمة انفجار مرفأ بيروت، ومحاكمة المُرتكِبين؟

ما رأيك بتعديلات قانون السِرِّية المصرفيّة؟

تعديلات قانون السِرِّية المصرفيّة هي بداية لكنّها غير كافية بتاتاً. وهناك أسئلة حول مُحاولات تفخيخ هذا القانون كي تكثُر التفسيرات لاحقاً. لكنّني مع السَير قدُماً بأن نأخذ الموجود ونعمل دائماً على تطويره وتعديله لاحقاً في أول مُناسبة. ما جَرى يُذكِّرني بقانون المُنافسة الذي كان يفتَرض إقراره بشكل أفضل.

لا ننسى أنّنا ما زلنا وسط مجموعات اوليغارشيّة مُسيطِرة ومُهيمِنة، من دون وجود حقيقي فاعل للإصلاحيّين الأقوياء، مِمّا فاقم ولا يزال الشُعور بالقهر والظلم لدى شرائح واسعة من مجتمعنا. هذا يُذكِّرني بما كان البابا الراحل القدّيس يوحنا بولس الثاني قاله يوماً: «لا سلام يُبنى على القهر والظلم، بل على العدالة والغفران».

إلا ترى أنهم يحاولون ترميم نفس النموذج الاقتصادي؟

النموذج الذي اتُّبِع مُنذ التسعينات أثبتَ فشله وعقمه سواء بالسياسات المحليّة والخارجيّة أو بالاقتصاد والاجتماع. هذا النموذج سَقط إلى غير رجعة، كما أكّد البنك الدولي جازماً في دراسة طويلة وموَثّقة أصدَرها مؤخَّراً. المطلوب اليوم إعادة إنتاج نموذج عصري إبداعي إنتاجي حداثي يُلبّي طموحات شبابنا ويوفّر لهم فرَص عمل في وطنهم. أبناؤنا يهاجرون بعدما وجدوا انفِصاماً بين الواقع المَرير وما يطمحون إليه في دولة حرّة، سيَّدة، مستقلّة، غير تابعة لشرق أو غرب، وتشكّل مساحة حوار وتلاقٍ للجميع.

كيف ننشد دولة حوار وتلاقٍ والسياسيّون متخاصمون لا يحاورون بعضهم بإيجابيّة مُطلَقاً؟ حتى أنَّ حالات الشقاق والمناكفات موجودة ضمن الفريق الواحد وأحياناً ضمن الحزب الواحد.

ما تفسيرك لاستغراق كل هذ الوقت الطويل في قضية ودائع الناس من دون إيجاد حل لها؟

عالِقون في نقطة الودائع فقط لأنّنا نعيش الإنكار الاقتصادي والسياسي الكبير. ما مِن أحد من المنظومة كان يريد الاعتراف بأنَّ في مصرف لبنان فَجوة بلغَت 75 مليار دولار تُضاف الى الدَين العام الحكومي المُسجَّل في وزارة الماليّة والبالغ راهناً نحو 100 ألف مليار ليرة وقَرابة 40 مليار دولار.

هذه الفَجوة هي عمليّاً خسائِر مصرف لبنان التراكميّة، الناتجة عن الفَساد والهَدر والتبذير والسياسات النقديّة الخاطئة التي اعتُمِدت منذ التسعينات، وهي المُسبِّب الرئيسي لشحّ الدولار في السوق منذ أواخر العام 2019. كانوا يُعَظِّمون ويُكرِّمون مَن أخفى لسنَوات هذه الجريمة الماليّة المُرَوِّعة وهو الذي زَوَّر الوقائع وسَمّى خسائِر مَصرِف لبنان التي تسبَّب بها «مَوجودات أخرى»، وراحوا يتهَجَّمون على قِلَّة مِمّن كشفوا الحقائق المُرّة. بعدئذٍ وطوال 3 سنوات، صاروا يتكاذَبون ويحاولون اختلاق الذرائع والتَبريرات بوقاحة قَلَّ نظيرها. وإلى الآن يتخبطون من دون ايجاد حل عادل ومنصف للمودعين.

مؤخَّراً فقط، وبعد أنْ تحدَّث الرئيس الفرنسي ماكرون والامين العام للأُمم المتَّحدة غوتيريس عن «بونزي سكيم» لبناني، وبعد نشر التقارير الدوليّة، بدأوا بالاعتراف بهذه الخسائر إنّما بخَفَر ومع محاولات لتضييع وتمييع المسؤوليّات مثل إيهام الرأي العام أنَّ عجز الكهرباء قد تَمَّت تغطيته من ودائع الناس. نعم، اعترى قطاع الكهرباء الكثير من الضُعف منذ التسعينات ولنا جميعاً ملاحظات على هذا القطاع، لَكِنّ تمويله تأتّى من نتائج إصدارات اليوروبوندز وليس من أموال الناس الذين أودَعوها في المصارف التي بدَورِها أودَعت معظمها في مصرف لبنان. وهذا ما برهَنه وأكَّده أكثر مِن خَبير في مُقدّمهم الدكتور توفيق كسبار في دراسة موثّقة بالأرقام والتواريخ. ألا يَحقّ للناس أن تَعرف كيف تَبدَّدت أموالها ومَن استفاد منها؟ هنا تَكمن أهميّة التدقيق الجِنائي.

هل التدقيق الجِنائي هو المدخل لكشف الحقائق ومعالجة الأزمة؟

نُعَوِّل جميعاً على التدقيق الجِنائي، لكنّني أعَوِّل قبل كُلّ شيء على إعادة إنتاج مشروع وطني متكامل، يرتَكز على الإنتاجيّة وعلى سلّم قيَم وأخلاق وحوكمة... مشروع للسياسة والاقتصاد والاجتماع والصحّة والتربية والبيئة. بناءً عليه، يُفترَض المطالبة بالشفافيّة الكاملة الشافية، وبمحاسبة مَن أهدَر الأموال العامّة وتَصَرَّف بمعظم أموال الناس. وعلينا رفض محاولات العفو عن الجرائم الماليّة، وعدم تكرار ما حدث مع قانون العفو العام عن جرائم الحرب الأهليّة. يمكن القول إنّنا وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم لأنّنا لم نُقِرّ بما حصل من جرائم وتغاضَينا عن ضرورة محاسبة مرتكبيها بعد الحرب. نريد مواجهة الحقائق كما حصل في جنوب أفريقيا حتّى لا تتكرّر الجرائم بأشكال مختلفة. وهذا مُعقَّد لأنه يشمل تراكمات 47 سنة، لكنَّه ليس مُستحيلاً.

هل ترى فرصة للنهوض بعد تفاقم الأزمة بشكل مخيف؟

لَقَد انهار اقتصادنا، وهذا الانهيار يمكن أن يشكّل فرصة لإعادة بناء نموذج إنتاجي صناعيّاً وزراعيّاً وخدماتيّاً، فضلاً عن التكنولوجيا واقتصاد المعرفة والفنون، في ظلّ إنماء متوازن مناطقيّاً وقِطاعيّاً، وعدالة اجتِماعيّة تفتَرض نظاماً حديثاً ومتوازناً للرعاية الصحيّة، وتطويراً لقانون الضريبة على الدَخل لتُصبح تصاعديّة، محفِّزة للعمل والإنتاج وللنموّ الاقتصادي المُستدام.

ما مِن حزب في لبنان يملك اليوم مشروعاً ويلتزم بتنفيذه

يرفض منصور بطيش توصيف بعض كلامه (عن لبنان الذي يريد) بأنه كلام رومنسي غير قابل للتحقيق. ويقول:

«الحُلم بالتغيير هو المُنطلق لأيّ تغيير حقيقي وجِذري. ولا رومنسيّة في ذلك، بل حقيقة نسعى اليها، وواقعيَّة نرجوها. عندما قامت الفِكرة اللبنانيّة منذ ما يزيد عن مائة سنة، كانت شبهَ حُلم. والتطلّع اليَوم لبناء دولة العدالة والحداثة والإنتاج والإبداع وصَون الحرّيات والانفتاح على محيطنا المشرقي والعربي والاورومتوسّطي، كلّ هذا لَيسَ وَهماً بل هُو حلمٌ قابل للتحقيق. أنا أحلَم نعم، لكنّني لا أتوَهّم. وأدعو شعبنا، خُصوصاً جيل الشباب، إلى عيش هذا الحُلم المؤَدي الى دولة القانون والحقّ بالحياة الكريمة، لا دولة المَذاهب والطوائف والعنتَريّات. ليس هناك صراع طوائف في لبنان، بل صراع بعض المتحكِّمين المُستغلّين للطائفيّة بغية تنفيذ أجنداتهم الخاصّة وهي عموماً مصلَحيّة ضيّقة في ظلّ عقدة «الأنا» المتضخّمة. أدعو إلى تنافس كُلّ الأحزاب على مشاريع وطنيّة وأفكار تطويريّة إبداعيّة. لكن وللأسف، ما مِن حزب في لبنان يملك اليوم مشروعاً ويلتزم بتنفيذه.

ما أطرحه هو في إطار مشروع واضح المعالِم ومحَدّد الأهداف، وهذه الأفكار هي إذاً جُزءٌ من سلّة متكاملة عرضتُها في عِدّة مناسبات، على مَراحِل منذ اوائل العام 2017، وقد جرى نَشرها في حينه.

تجاوزتنا الأحداث... ولم يعد الترقيع الاقتصادي نافعاً

يؤكد منصور بطيش أن التغيير المطلوب هو بالأشخاص وبالعقليّة وبالسُلوك، والغاية المنشودة تكمن بِبناء دولة ركيزتها الثروة البشريّة والإنتاج والطاقة والنقل العصري، يحميها قضاء فاعل وأمن حازم وأمان اجتماعي. كُلّ ذلك، برأيه، بحاجة الى قرار سياسي لا يزال غائباً ولا مَناص من توفيره.

ولا يرى جدوى من الحديث عن الاقتصاد فقط، بل الأجدى الحديث عن الاقتصاد السياسي والاجتماعي، خُصوصاً بعدما تجاوَزَتنا الأحداث التي لم يعُد ينفع مع تعقيداتها التَرقيع. ويقول: «بِتنا بحاجة إلى تغيير جِذري كُلّي، فالمحاولات الترقيعيّة للمنظومة تُعمّق الأزمة، وتَزيد الفَوارق الاجتماعيّة، وتُساهم في استغلال الوضع مِن قِبَل قِلّة نفعيّة ريعيّة، وفي استنزاف قطاعات منتِجة يُفتَرض أن يكون لها دور مِحوَري في إعادة الاقتصاد على خريطة النموّ الحقيقي المُستدام».


MISS 3