عيسى مخلوف

مشهديّة الحياة اليوميّة

3 أيلول 2022

02 : 01

مساء أمس، كنتُ أسير بمُحاذاة نهر "السين" حين طالعني أشخاصٌ يقفون عند الجسر المُقابل وينظرون إلى أسفل، وبعضهم منهمك في التقاط الصُّوَر. حين مررتُ بالقرب منهم، ألقيتُ نظرة صَوبَ الماء، ووجدتُ شابّين اثنين يقفان معاً، أحدهما يحمل بين يديه سمكة كبيرة ويحاول أن ينزع من حلقها الصنّارة التي اصطادها بها. وبحركة عنيفة، تمكَّن أخيراً من اقتلاعها، ثمّ رفعها إلى صدره. كانت السمكة تحاول عَبَثاً أن تتملّص من قبضته، بينما كان يضغط بيده اليسرى على المنطقة القريبة من ذيلها، ويَغرز أصابع يده اليمنى في خياشيمها. في تلك اللحظة، اقترب منه مرافقه والتقط له عشرات الصُّوَر، بالإضافة إلى صورة "سيلفي" تجمعهما معاً وهما يَتَسلّيان ويُقَهقهان. عند نهاية حفلة التصوير هذه، رمى الصيّاد الماهر السمكة في الماء وكانت لا تزال حيّة، لكنّها ممزّقة الحَلق والخياشيم.

ما نمارسه حيال بعضنا بعضاً من استغلال وعنف، لا يختلف عن تَعامُلنا مع الحيوان الذي لا يكفينا أنّه يُطعمنا ويَكسونا! التقاط الصور المثيرة أصبح أحد الأهداف الأساسيّة في حياتنا اليوميّة، كما أصبح عند البعض لعبة لا تخلو من العنف، ومنّا من يدفع حياته أيضاً ثمناً لها، طالما أنّ عدد ضحايا السيلفي يتراوح سنويّاً بين الثلاثمئة والأربعمئة ضحيّة. من أجل صورة "غير شكل"، نُعرِّض أنفسنا للخطر. نتسلّق الشلّالات والمنحدرات. نصعد إلى أعلى القمم والمرتفعات، ونهبط إلى أسفل الوديان من دون أخذ الحيطة اللازمة، ونقترب من الحيوانات المفترسة، ونمثّل دور المنتحر فتنطلق رصاصة من المسدّس وننتحر.الصورة، عند البعض الكثير، هي الأساس ومبرِّر الوجود. مع سهولة التقاطها، أمست العين التي ترافقنا ليلَ نهار. معها، لا نشعر أنّنا وحدنا، بل أمام جمهور من المتتبّعين والمُعجبين. يقف الواحد منّا وحده في الحديقة، ينظر إلى العدسة ويبتسم أو يُكَشِّر. وحين نكون في متحف أو معرض، نترك وراءنا الأعمال الفنّيّة التي قصدنا رؤيتها لتشكّل في الصورة خلفيّة لوجوهنا. ملايين الصور تنتشر يوميّاً، على مستوى العالم أجمع، في وسائل التواصل الاجتماعي، وملايين اللايكات التي تعبِّر عن إعجاب افتراضي بكائنات افتراضيّة.

لقد جاءت التقنيّات الجديدة، التي نستهلكها يوميّاً وتستهلكنا، لتفضح علاقتنا بأنفسنا ولتوقظ، إلى أقصى حدّ، نرجسيّتنا المختبئة في الأعماق. عبادة الذات تَحُول دون النظرة الموضوعيّة إلى الواقع. منَّا مَن يرسم صورة افتراضيّة لنفسه ويعيش حياته كلّها في خدمتها، والقمّة التي يرفع تمثاله فوقها لا تتّسع إلّا لشخص واحد: فريد عصره ووحيد زمانه. ثمّ يروح يتخيَّل أنّ ما يكتبه أو يرسمه أو يتلفّظ به شيءٌ استثنائي مُتَفرِّد ونادر. من هذا الموقع، يصبح من السهل إلغاء الآخرين وعدم الاعتراف بأعمالهم وبوجودهم.

والصورة هي أكثر ما يلفت انتباهنا اليوم، ليست الصورة بصفتها أحد الفنون الجميلة، بل الصورة العابرة داخل طوفان من صوَر تأكل الواحدة منها الأخرى، مثل موج البحر الهادر. أهمّ مقالة في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو العلوم لا تحصد إلّا بضعة لايكات خجولة، غير أنّ صورة واحدة لصحن "حُمُّص بطْحيني" تحصد ألوف اللايكات. كأنّنا غير معنيين بما يجري حولنا في العالم، أو كأنّنا نحاول أن نهرب من وطأة الواقع إلى عالم يتحوّل كلّ ما فيه إلى أداة إلهاء وتسلية، وإلى الانجراف أكثر فأكثر في تيّار الابتذال... عجيب كيف ينهار كلّ شيء حولنا، في لبنان وفي العالم أجمع! يكفي أن نتخيَّل كيف أنّ الحرب في أوكرانيا تدور حول المفاعل النوويّ الأكبر في أوروبا لنفهم أين نحن الآن! تبّاً لهذا الوحش الذي فينا نحن البشر.

هكذا نحن، لا نلتفت ولا يعنينا الالتفات إلى ما يتصدّع في الجدار الذي نتّكئ عليه... ما يحتاج إلى قراءة، بل ما يستحقّ القراءة والتعمُّق، يسقط (إلّا في حالات نادرة) في امتحان وسائل التواصل الاجتماعي. نحن فعلاً، هنا، في زمن "الغادجيت" وفي زمن السرعة: "فاست فود"، و"فاست" كتابة وفنّ، و"فاست سكس"، بل أيضاً في زمن تمجيد المظاهر والسوقيّة والبشاعة وتكريسها كقيم عليا لا ينبغي المساس بها.

لا يمكننا أن نعيش اليوم بمعزل عن التكنولوجيا والتقنيّات الحديثة، لكنّ كيفيّات استعمالها هي التي تحدّد علاقتنا بها: إمّا أن تفتح لنا آفاقاً جديدة أو تجعلنا أكثر غربة عن أنفسنا وعن العالم حولنا.


MISS 3