حسان الزين

جاذبية الهامشية وسؤالها

لا بد من الاعتراف. الوطنيون، الديمقراطيون، العلمانيون، اللاطائفيون، اليساريون، المدنيون، الاعتراضيون والاحتجاجيون على النظام وقوى السلطة وممارساتها التدميرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، وكل من يريد بناء دولة القانون والمؤسّسات، هم في الهامش. وكثيراً ما يبدون قدماء ومثاليين وحَالمين خارج الواقع.

فالمتغيّرات في العالم ولبنان تتجه عكس ما يرغب هؤلاء ويعتقدون، وإن كانوا كثيرين. ما يزيد هامشيّتهم ويكرّسها ويعرّضهم للتلاشي والذوبان والتأثّر في هذا المحور السياسي أو ذاك في الخريطة المحلية والإقليمية والعالمية.

عالمياً، الصراعات بين الإمبراطوريات والدول الكبرى والإقليمية على النفوذ والمصالح. ولا مكان في أجندات تلك الصراعات وأيديولوجيّاتها وخطاباتها، التي تغلّب الهويّات القومية والدينية والتاريخية، لما يتعلّق بنوع الدولة ووظائفها تجاه المجتمعات والإنسان. هي صراعات على السلطة ومن أجل السيطرة على الجغرافيا وما ومن فيها، وتُصوّر أن مواجهة الآخر «نهاية الدنيا» و»مفتاح الجنة».

ولبنانيّاً، تتّجه الأمور أكثر فأكثر إلى تفتت المجتمع وسيادة الخطابات الانحيازية والانعزالية الخالية مما يتعلّق بالدولة والمجتمع. فلبنان لم يعد ساحة للقوى الدولية فحسب، بل بات مساحة تتردد فيها أصداء صراعات العالم وأيديولوجياتها وخطاباتها أيضاً. وذلك نتيجة الإخفاق الكبير، على مدى قرن، في بناء دولة ومواطنة ووطنية، ونتيجة التغيّرات والصراعات الدولية والإقليمية.

وسط هذا، وفي غياب الدولة وانسداد الآفاق وسيادة الانتظار من جهة وافتقاد تيار الاحتجاج والاعتراض إلى مشروع فكري وبرنامج سياسي وإطار تنظيمي (أو أكثر) من جهة ثانية، باتت الوطنية والديمقراطية والعلمانية واللاطائفية واليسارية والمدنية، وغيرها من العقائد والتوجّهات «الحداثوية»، أشبه بقناعات شخصيّة يكرّرها أصحابها ويمارسونها بنسب وأشكال متفاوتة في مساحاتهم الخاصّة والعامّة، ومن دون فاعليّة سياسية وثقافية.

يبدو أن لهذه الهامشية جاذبية في لبنان، حيث هناك كما استنتج الرئيس سليم الحص «كثير من الحرية وقليل من الديمقراطية». ففي هذه الهامشية، تصدح مقولات الإحباط واليأس من التغيير وبناء الدولة والمواطنة والوطنية، إزاء تشرّش الطائفية وقواها المرتبطة بالخارج وعمق الفساد ونزعات المصلحة في المجتمع، والفشل التاريخي للقوى الوطنية والديمقراطية والعلمانية واللاطائفية واليسارية والمدنية والاعتراضية والاحتجاجية في التغيير ... إلخ. ما يغذّي ثقافة الخلاص الفردي والانسحاب من السياسة أو الاقتراب من القوى المذهبيّة.

لكن، في الوقت نفسه، ما زال هناك عصب أو نبض يربط ما بين فئات واسعة من الديمقراطيين والعلمانيين واللاطائفيين واليساريين والمدنيين والاعتراضيين والاحتجاجيين بالبلد. لم يستسلموا أو يتطبّعوا جميعاً مع الهامشية. ما زال هناك، من هؤلاء وغيرهم، مَن يؤمن بأن العقائد والأفكار والطموحات ليست مجرّد قناعات شخصية وهويّات عقائدية وفنون عيش خارج السياسة. وهؤلاء يستشعرون المخاطر على لبنان من تدمير القوى المذهبية الدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة وتغليبها الارتباطات والمنافع الحزبية والخاصّة على المصالح الوطنية. ومن مظاهر ذلك العصب أو النبض الانتفاضاتُ المتكرّرةُ لهؤلاء واستجاباتهم للتحرّكات ضد «النظام» وقوى السلطة وسياساتها وممارساتها، إضافة إلى مساعيهم للبقاء في المشهد العام وبناء مجموعات أو تكتّلات والحفاظ على تشكيلات قائمة وتحريك الشارع أو انتظاره وما إلى ذلك.

ومن نتائج هذا التناقض ما بين القبول بالهامشية ورفضها تعقّدُ مسار ولادة حامل اجتماعي للتغيير وبناء الدولة والمواطنة والوطنية، الذي يُفترض أن يشكل الوطنيّون والديمقراطيون والعلمانيون واللاطائفيون واليساريون والمدنيون والاعتراضيون والاحتجاجيون، وغيرهم، خميرته أو لبنته الأساسيّة.

ويزيد التعقيد تعقيداً تقدّم العقائد والخطابات، في تيار الاحتجاج والاعتراض، على السياسة، في ظل الأثر الكبير لخطابات الانقسام المذهبي - الإقليمي - العالمي من جهة وثقافة الحركات الاجتماعية من جهة أخرى. وهذا من العوامل الأساسية التي تشد التيار إلى الهامشية والتشتت والتأثر بخطابات الانقسام المذهبي - الإقليمي - العالمي وتعرقل إنتاج مشروع فكري وبرنامج سياسي وإطار تنظيمي (أو أكثر).

إزاء ذلك، وعلى الرغم من إيجابيّات وجود الوطنيين والديمقراطيين والعلمانيين واللاطائفيين واليساريين والمدنيين، وغيرهم بالطبع، في المجتمع اللبناني المتنوّع، فإن السؤال هو هل سينهزم هؤلاء ويستسلمون أم سيتجددون ثقافياً وسياسياً؟ ومخاطر ذلك كثيرة، تبدأ بانفراد القوى المذهبية في الساحة، ولا تنتهي بتقلص هوامش الحرية وتدمير الدولة وتفتيت المجتمع. وهذا سؤال مهم للبنان ووجودي بالنسبة إلى هؤلاء.