زيزي إسطفان

بعثة لبنانية - فرنسية تستكشف ثاني أكبر المغاور اللبنانية

هوة "قطين عازار": مسار من 8 كيلومترات حتى الآن...

6 أيلول 2022

02 : 01

الفريق اللبناني ـ الفرنسي على بعد 6000 متر من المدخل
فيما لبنان فوق الأرض غارق بمشاكله وصراعاته وفقره، ثمة لبنان آخر تحت الأرض وفي باطنها غارق بالهدوء والسكينة يتنعم بالثروة المائية والجمال الطبيعي. عالم كان ينتظر أن يتم اكتشاف خباياه ليخرج الى الضوء منتصراً. مغارة « قطين عازار» شكلت الحدث الأسبوع الماضي بوصول فريق فرنسي من المستغورين في بعثة إستكشافية لمشاركة الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور ALES في اكتشاف المزيد والمزيد مما تخفيه هذه المغارة من أسرار وثروات مائية وكنوز جيولوجية.

سكان منطقة عينطورة المتن كانوا يعرفون مغارة «قطين عازار» منذ زمن بعيد كمأوى للماعز في عينطورة «يضبها» أصحابها فيها عند بدء الشتاء. مغارة عادية لم تكن تثير في أهل المنطقة اية حشرية لاستكشافها إلى أن تسلق شابان من الضيعة هما نهرا وطوني عازار جدار المغارة ووصلا الى ممر ضيق لا يتعدى ارتفاعه 60 سنتم وعرضه 50 ويضيق في مكانين ليصبح 30 سنتم فقط. بصعوبة وتحدٍ اجتازا الممر ووصلاً الى بئر عميقة مرعبة فتوقفت مغامرتهما وعادا أدراجهما.

قصة « اكتشاف العصر»ما كانت القصة لتأخذ أبعاداً كبيرة، وفق ما تروي لـ»نداء الوطن» بدر جبور جدعون العضو الناشط في مجلس شورى الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور، لو لم يلتقِ طوني عازار بمجموعة شبان وشابات يحترفون استكشاف المغاور كانوا يتمشون في وادي عينطورة لاستكشاف ناووس ميغاليتي هناك. هاني عبد النور أحد المستكشفين في المجموعة، وفيما هو يصغي الى كلام طوني يخبره عن المغارة، تحمّس للموضوع لمعرفته بطبيعة التكلسات الصخرية في المنطقة واحتمال وجود مغاور فيها. كان ذلك في العام 1996 وعرف هاني وقتها بحدسه وخبرته أن هذه المغارة ستكون اكتشاف العصر. لم يتأخر الفريق كثيراً في التحضير لرحلة استكشاف لمغارة «قطين عازار» وفي عطلة الأسبوع التالية انطلق فريق من الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور الى هناك ودخلوا الممر الضيق ووصلوا من خلاله الى البئر التي اكتشفوا أن عمقها 75 متراً. وأكملوا المسار ليصلوا الى ممر رائع بجماله مليء بالتكلسات المميزة ووصلوا الى بئر ثانية بعمق 15 متراً. وبعدها ممر متعرج بحوالى 100 متر يصب في بئر بعمق 39 متراً ومن ثم بئر 9 أمتار وبعدها بئر بعمق 43 متراً تحوي متدلّية كلسية رائعة على طول البئر. الفريق المتحمس لم يكتف بهذه الاستكشافات الهامة وأكمل اثنان منه وهما بيار ابي سعد وفادي بعينو السير في المغارة ليصلا الى بئر بعمق 180 متراً يفتح على ممر متعرج أوصل الشابين ومن بعدهما الفريق الى نهر جوفي شكل الجوهرة الخفية لهذا الاكتشاف الجغرافي والجيولوجي الهام.




مشهد من داخل المغارة


ثروة مائية تكشف عن نفسها

هنا تبدلت كل المقاييس وانتقلت مغارة الماعز الى هوة ثرية غنية بمياهها الجوفية بعد أن أوصل النهر الى بحيرة جوفية مع روافد تغذيها من جهتي اليمين واليسار. لكن الفريق لم يستطع استكمال عملية الاستكشافي والذهاب أبعد لما يتطلبه الأمر بسبب بداية الخريف وسوء الطقس. لكن، إثر اكتشاف ثروة المياه الجوفية تمّ وضع خطة مع المعنيين ولا سيما المكتب الاستشاري للتنمية BTD والصندوق الكويتي. وجنّد فريق ALES لاستكشاف المغاور عديده وعتاده لوضع الخرائط الطوبوغرافية للمغارة مع خبير طوبوغرافيا فرنسي استطاع بآلاته المتطورة تحديد موقع البحيرة من سطح الأرض. وحينها كان فريق مكون من جوزيف تابت وبدر جبور جدعون يعمل تحت الأرض لتثبيت الأجهزة داخل البحيرة فيما الخبير الفرنسي يعمل من فوق لتخترق موجات أجهزته 425 متراً من الصخور وتصيب البحيرة في وسطها لتحدد موقعها.

بعدها بدأ مشروع استخراج المياه الجوفية لتغذية أكثر من 17 قرية في المتن في انجاز مذهل. بدأ العمل على تركيب المضخات لسحب المياه واستغلال ما تم اكتشافه في هوة قطين عازار. لكن العمل لم يتوقف هنا فالمغارة لا تزال تعد بالكثير، وهكذا تابع فريق ALES استكشاف المغارة مع امتداداتها العلوية من بدايتها حتى النهر الجوفي وتم اكتشاف فتحات عمودية فيها تصل ما بين العمق على مسافة 450 متراً والسطح. واستمر الفريق في العمل حتى وصل الى 8000 متر امتداداً داخل المغارة. لكن الاستكشافات توقفت في العام 2018 مع بدء الأزمة.

« جزء كبير من شباب الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور هاجر وترك لبنان، ما جعلنا نفتقد العنصر البشري إضافة الى عدم تمكننا من المتابعة اقتصادياً وتمويلياً بوجود أموالنا مسجونة في المصارف. واقتصرت الاستكشافات على أمور بسيطة لا تتطلب تكلفة عالية علماً أن استكشاف عالم المغاور يتطلب إمكانيات مادية وبشرية وتقنية عالية جداً» تقول جدعون.



النهر الجوفي المعروف بنهر ALES



همدت حركة الاستكشاف مع همود الوضعين الصحي والاقتصادي في لبنان وانكفأ المستكشفون عن هوة قطين عازار وغيرها لكنهم لم ينكفئوا عن المشاركة في مؤتمرات عالمية. في فرنسا أثارالشرح عن هوة قطين عازار اهتمام اللجنة المنظمة للمؤتمر العالمي للاستغوار. ورأى أحد أعضاء اللجنة فيها فرصة للتعمق في استكشاف هوة لم تكشف بعد عن كل اسرارها. تواصل مع الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور وعرض القدوم الى لبنان مع فريق متخصص للمشاركة في سبر أغوار هذه الهوة.

« بالطبع رحبنا بالأمر»، تقول جدعون «فنحن بحاجة لكل دعم لننهض من رمادنا وبحاجة لمشاركة فريق متخصص يملك الخبرة التقنية والبشرية العالية والموارد المالية التي تسمح بالعمل ويمكننا الاستفادة من خبراته وتقنياته. اتفقنا مع مجموعة Continent 8 التي تضم أعضاء من جمعيات عدة ونخبة من المتسلقين ومستكشفي المغاور. وقد أمنوا كل ما نحتاجه من عدة ومن رعاة للتمويل وحملوا معهم ما لا يقل عن قيمة 12000 دولار من المعدات. من جهتنا كان علينا تأمين إقامة هؤلاء الأشخاص في أماكن قريبة من المغارة وتأمين أكلهم وشربهم. ومعروف أن طعام وشراب المستغور يختلف عن طعام الشخص العادي. رئيس بلدية عينطورة جان خليل عازار اهتم بكل الأمور اللوجستية على نفقته الخاصة. كما وضع غرفاً في البلدية لتكون مقر إقامة وعمل للفريق كما اتصل بالسيد جان نهرا عازار ليؤمن للفريق إقامة في منزله لتامين التواصل بواسطة أجهزة خاصة مع المستغورين في الهوة».



6000 متر داخل الأرض

كما فوق الأرض كذلك تحت الأرض كانت الانجازات اللوجستية تتم لتأمين مخيمين الاول على بعد 1500 متر من المدخل والمخيم الثاني تحت اسم محمد المولى وهو كبير يتسع لاثني عشر شخصاً على بعد 6000 متر داخل المغارة. الطبيعة الجيولوجية اللبنانية لعبت دورها في تأمين متطلبات المستغورين من الأوكسجين وحتى تأمين راحتهم. فالصخور اللبنانية ملأى بالتكسرات التي تتيح نفاذ الأوكسجين كما أن الطبيعة الكلسية لا تؤثر سلباً على المستكشفين.

ثلاث ليال وأربعة أيام أمضاها فريق مكون من 15 شخصاً تحت الأرض بالتناوب بالمرحلة الاولى للبعثة. فرنسيون و لبنانيون نسوا ما يحدث فوق من مشاكل وأحداث وانصرفوا الى التعمق أكثر في المغارة ليكتشفوا ألف متر إضافية، بحيث صارت تمتد على مسافة 9 كيلومترات في تشعبات أفقية وعمودية في اتجاه الشرق والغرب. وفي المرحلة الثانية تناوب اكثر من 18 مستغوراً وتم اكتشاف مسافة 1300 متر جديدة بحيث بلغت الاكتشافات الحديثة كيلومترين ونصف تقريباً. وكانت مهمة هذه البعثة استكشاف الممرات العلوية الجديدة المعروفة باسم cheminées المتصلة بالنهر الجوفي وبالانفاق الجوفية.

لكن رغم ما تم اكتشافه من مساحات إضافية وانتهاء بعثة الاستكشاف الحالية، يجمع الكل على أن المغارة لم تكشف بعد عن كل أسرارها. وقد تم وضع خطة لاستكمال العمل في المرحلة القادمة بواسطة الفريق اللبناني بعد رحيل الفريق الفرنسي الذي تزوّد بالمعدات الضرورية لإكمال المهمة.



إمتداد أفقي لسلسلة من الآبار


ثاني أكبر المسارات الجوفية في لبنان

قطين عازار اسم لمع من باطن الأرض واثبت غنى لبنان الجيولوجي وثراءه بالمياه الجوفية. وعالميا ًتعتبر كل مغارة تكتشف فيها مياه جوفية قيمة بحد ذاتها فكيف بلبنان الذي بات يفتقد الى المياه؟

نسأل السيدة بدر جدعون عن أهمية المغارة سياحياً وإذا ما كانت قادرة على منافسة مغارة جعيتا؟ بصراحة تقول جمالية قطين عازار بأهميتها الجيولوجية بما تعطيه من معلومات قيمة عن ظروف تكون المغاور في لبنان. أما سياحياً فلا يمكن مقارنتها بمغارة جعيتا ولا يمكن أن تكون مغارة سياحية لأنها تحوي ممرات ضيقة وطرقاً صعبة، لكن غناها بالمياه يعطيها كل الأهمية.

الفرنسيون كعادتهم اهتموا بشؤون لبنان ومصاعبه وسارعوا الى النجدة. يان أوفري رئيس بعثة Continent 8 روى لنداء الوطن الحماسة التي دفعت بهم للمجيء الى لبنان قائلاً: «إنه شغف استكشاف المغاور واكتشاف هوة جديدة واعدة وكذلك اكتشاف هذا البلد الجميل والتعاون مع الجمعية اللبنانية لاستكشاف المغاور والمستغورين المحليين. سمعنا عن هوة قطين عازار و استهوانا الأمر فهو ثاني أطول المسارات الجوفية في لبنان وربما هو في صدد التحول الى أطولها. الاستكشافات لم تنته بعد ولا أرقام رسمية محددة لكن حسبما رأينا ثمة امور واعدة جداً في أماكن مختلفة من المغارة ولدينا كل الرغبة بالذهاب أبعد وأبعد وتكبير هذا الاكتشاف من خلال الطوبوغرافيا. اليوم بعد أن انتهت هذه البعثة نأمل بالعودة يوماً وتنظيم بعثة استكشافية جديدة لسبر المزيد من اسرار وتشعبات هذا المسار الجوفي مع اعضاء ALES.





مدخل هوة "قطين عازار"


قد لا تكون هوة قطين عازار من بين الأطول في العالم لكنها في منطقة الشرق الأوسط من الأهم، لغناها بالمياه الى جانب طابعها الجيولوجي المميز. أما اكتشاف أبعاد جديدة لها اليوم رغم صعوبة الأمر وعمق المغارة فقد تم ّ بفضل التعاون بين الفريق الفرنسي المحترف وفريق محلي صاحب خبرة كبيرة ورغبة بالتعاون مع المحترفين للتعلم والمشاركة في التطور. والأهم بفضل التنظيم الرائع على السطح وفي العمق ليتم العمل على أفضل وجه.

فهل يمكن أن ينعكس التعاون في باطن الأرض واكتشاف الثروات الجيولوجية المخبأة تعاوناً على السطح يتيح للبنان استخراج ما يملكه من ثروات؟


MISS 3