تشيلامكوري رجا موهان

سياسة عدم الإنحياز انتهت ولن تعود

14 أيلول 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

رئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي والزعيم الكوبي فيدل كاسترو في قمة دول عدم الانحياز | نيودلهي، 5 آذار 1983

مثلما رفضت أفريقيا، وآسيا، والشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، الاصطفاف مع الغرب في مواجهته المتصاعدة ضد روسيا والصين، توسّعت المخاوف في العواصم الغربية وارتفع منسوب الحماس في أماكن أخرى أمام احتمال أن تعود هذه المناطق إلى سياسة عدم الإنحياز. لكن قد يكون هذان الانطباعان خاطئَين. في الغرب، لا يزال شبح الحرب الباردة يطارد الجدل المرتبط بعدم الإنحياز، فقد كان هذا المفهوم حينها مرادفاً لاتخاذ موقف ضد الغرب. ومن وجهة نظر البلدان النامية، لطالما كان بناء نظام غير غربي أو كيان ينشأ بعد حقبة الهيمنة الغربية سراباً بعيد المنال. لكن عند التعمق في تحليل التطوّرات المتلاحقة، يسهل أن نستنتج أن سياسة عدم الإنحياز اختفت منذ وقت طويل. لم يندثر هذا المفهوم بالكامل على الأرجح، لكنّه لا يطرح تهديدات بارزة على الغرب ولا يفيد الشرق.

اليوم، تبدو ردود البلدان الواقعة خارج معسكر الغرب على الصراع المتجدّد بين القوى العظمى متفاوتة لدرجة ألّا توضع في خانة واحدة. لا تتعلّق هذه المواقف بمفاهيم عدم الإنحياز التي انتشرت حين بلغت هذه الحركة ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية، فأصبحت الدول التي انتهى زمن استعمارها عالقة وسط صراع عالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ثم شكّلت كتلة ثالثة لها طابع مبهم نتيجةً لذلك.

لم يكن عدم الإنحياز مفهوماً متماسكاً يوماً، بل إنه عكس مجموعة من الأفكار المختلفة حول طبيعة الالتزامات بشؤون العالم بعد حقبة الاستعمار. تتعلق واحدة من تلك الأفكار بالاقتراح القائل إن الابتعاد عن القوى العظمى والكتل المنافِسة لها عامل أساسي لحماية حرية التحرك في العالم. لكن اصطدم مفهوم الحياد بالواقع بعد فترة قصيرة. اضطر رئيس الوزراء الهندي، جواهر لال نهرو، وهو أحد مؤسسي مفهوم عدم الإنحياز، للتخلي عنه عند اندلاع الحرب الصينية الهندية في العام 1962. لجأ نهرو إلى الولايات المتحدة لتلقي المساعدات العسكرية، بينما تحالفت ابنته التي خَلَفته، أنديرا غاندي، مع الاتحاد السوفياتي في العام 1971. باختصار، لم يكن ذلك المبدأ المبهم أبرز عامل مؤثر، بل طبيعة التهديدات المطروحة.

في مرحلة معينة، دفعت التحديات الأمنية الداخلية والخارجية معظم الدول بعد حقبة الاستعمار إلى الاصطفاف مع قوى عظمى محددة، مع أنها تمسّكت بمبدأ عدم الانحياز ظاهرياً.

كان عنصر آخر من سياسة عدم الانحياز يحمل طابعاً إيديولوجياً محضاً، ما يعني تحويل مناهضة الاستعمار إلى مناهضة الغرب. تبنّى الكثيرون في النُخَب الحاكمة داخل العالم النامي نظريات اشتراكية حول التنمية واعتبروا الغرب الرأسمالي تجسيداً للاستعمار الجديد. ثم استغلّ الاتحاد السوفياتي والصين مشاعر البغض تجاه الغرب، وقدّما الدعم الاقتصادي والسياسي للأنظمة التي اكتسبت استقلالها حديثاً.

بلغت هذه المشاعر ذروتها في العام 1979، حين أعلنت "حركة عدم الانحياز" (لا تزال هذه المنظمة قائمة حتى اليوم) أن الاتحاد السوفياتي هو "الحليف الطبيعي" للدول النامية، خلال قمة استضافها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في هافانا. لكن مقابل كل زعيم لجأ إلى موسكو لتلقي الدعم، اتّكل زعيم آخر على الغرب لضمان صمود نظامه والحفاظ على ميزان القوى الإقليمي.

على صعيد آخر، كان مفهوم عدم الانحياز يرتكز أيضاً على نشوء حركة تستطيع الانقلاب على النظام الناشئ بعد العام 1945 وبناء نظام جديد يكون أكثر إنصافاً. بدا وكأن موجة إنهاء الاستعمار السريعة خلال الستينات وظهور أغلبية من الدول النامية التي تملك حق التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد يسهّلان تغيير النظام العالمي خلال السبعينات.

لكن بحلول الثمانينات، قسّمت واشنطن انشغالاتها بين موسكو وبكين وطوّرت استراتيجية للتصدي للتقدم السوفياتي في الدول النامية. دعم جزء كبير من بلدان "العالم الثالث" الجهود الأميركية والغربية، ووصلت المساعدات الأميركية، بموجب "عقيدة ريغان"، إلى جماعات الثوار والمتمرّدين التي كانت تسعى إلى إسقاط الأنظمة الراديكالية الموالية للسوفيات حول العالم.

كان جزء من انهيار عدم الانحياز يتعلق بالعامل الاقتصادي بكل بساطة. لاحظ القادة البراغماتيون في الجنوب العالمي حدود النموذج السوفياتي، فلجأ عدد كبير منهم بحلول الثمانينات إلى الرأسمالية الغربية ونظامها المؤلف من مؤسسات تنموية عالمية. تبيّن حينها أن الاشتراكية هي التي تواجه أزمة كبرى وأن الرأسمالية تتّسم بقوة تحمّل عالية. في مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، كان معظم البلدان النامية قد انضمّ أصلاً إلى مسودة "إجماع واشنطن" حول التنمية الاقتصادية.

كانت الفكرة القائلة إن الغرب ونخبته التنموية يخدمان قضية سامية (على غرار المبشرين المسيحيين في حقبة الاستعمار) قادرة على التأثير بالناس، لكنّها تجاهلت احتمال أن يرفض الوثنيون تغيير دينهم. كذلك، لم تكن الثروات والسلطات الغربية ميزة غير محدودة يمكن الاتكال عليها لإحداث التغيير المطلوب في بقية أجزاء العالم.

لكن رغم هذه الإخفاقات والانتكاسات المتكرّرة، صمدت الفرضية التي تتوقع أن تسير بقية دول العالم على خطى المعسكر الغربي. ليس مفاجئاً إذاً أن تشعر الأوساط الاستراتيجية الغربية بالذهول حين امتنعت بقية بلدان العالم عن الوقوف ضد الغزو الروسي لأوكرانيا بكل وضوح.

لكن لا يعني هذا الوضع أن ردة فعل الدول النامية ستنتج شكلاً جديداً من عدم الانحياز. يجب أن يستخلص الغرب بعض الدروس المهمة إذا أراد أن يكسب دعماً يفوق ما يحصده حتى الآن، في ملف أوكرانيا أو مسائل جيوستراتيجية أخرى.

أولاً، كان الغرب يستطيع تحسين موقفه من الحرب الروسية عبر وضع المشكلة في إطار مختلف. بدل اعتبار الحرب صراعاً بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، كان ليستفيد من التركيز على سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. تعطي هذه الأفكار أصداء أقوى في العالم النامي، نظراً إلى وفرة الحدود المتنازع عليها والصراعات المحتملة هناك.

ثانياً، تحمل المسافات أهمية خاصة. إذا عجزت أوروبا الغربية والشرقية عن الاتفاق بالكامل حول طريقة الرد على الحرب في أوكرانيا، وإذا كان الجمهوريون والديمقراطيون في الولايات المتحدة لا يحملون النظرة نفسها إلى روسيا، فما الذي يدفع أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا إلى تبنّي الموقف الغربي الراهن من أحداث أوكرانيا؟

ثالثاً، يجب أن يكتسب الغرب الدعم من الدول النامية في المسائل السياسية الأكثر أهمية بدل اعتبار ذلك الدعم حقاً طبيعياً له. بعدما تجاهل الغرب التزاماته السياسية تجاه الجنوب العالمي وتنازل عن معظم مساحاته الإقتصادية لصالح الصين سعياً وراء ترسيخ العولمة، يجب أن يبذل قصارى جهده اليوم لاسترجاع الدعم الذي خسره. تكشف تجربة الثمانينات أن تحقيق هذا الهدف ممكن.

تقضي الخطوة الأولى بالإعتراف بأن المنافسة المتصاعدة بين الغرب والتحالف الصيني الروسي تتطلب العودة إلى أشكال تقليدية من الدبلوماسية، أي كسب الأصدقاء والتأثير على الشعوب. قد تشمل هذه المقاربة الابتعاد التام عن أسلوب الوعظ الذي اعتمده الغرب في آخر ثلاثة عقود. لكن قد يكون المعسكر الغربي الذي يعتبر نفسه صديقاً للجنوب العالمي، مع أنه مارس أعلى درجات الضغوط على الدول النامية في مسائل كثيرة، الفريق الذي يجد أكبر صعوبة في إتمام هذه المهمة.

أما الخطوة الثانية، فتتعلق بإعادة التأكيد على أهمية دراسة المناطق في العلاقات الدولية لمساعدة الحكومات والمؤسسات الغربية على فهم تعقيدات مختلف المناطق والبلدان حول العالم. لطالما كان ظهور الجماعات التي ترفع الصوت حول قضية محددة في الغرب (ونجاحها في فرض أجندتها على الحكومات ومؤسسات التنمية المتعددة الأطراف) عاملاً ساماً في العلاقات مع البلدان النامية. حتى أن التمسك بهذا المسار قد يعطي نتائج عكسية أخرى في عصرٍ تحتدم فيه المنافسة بين القوى العظمى.

على صعيد آخر، تملك الدول النامية اليوم قوة سياسية تفوق ما كانت تتمتع به حين كان عدم الانحياز آخر موضوع مؤثر خلال الحرب الباردة. لقد زادت ثرواتها ومؤسساتها وثقتها بنفسها، وتعلّم جزء كبير من النُخَب فيها فن المساومة الجيوسياسية بين القوى العظمى المتنافِسة. هذا الوضع يقدّم فرصاً يجب أن يقتنصها الغرب، نظراً إلى توسّع التحديات الاستراتيجية التي تطرحها الصين اليوم مقارنةً بالاتحاد السوفياتي في الماضي.

أخيراً، يجب أن يتجاهل القادة الغربيون الخطاب الشائع حول "عدم استعداد الجنوب العالمي للاختيار"، ويُركّز على المخاوف الفردية للدول الأساسية في العالم النامي ونقاط ضعفها ومصالحها. كانت الدبلوماسية التقليدية والكفاءة السياسية ترتكزان على هذا العامل قبل أن يخطف المغامرون الإيديولوجيون السياسات الخارجية الغربية.

في غضون ذلك، لا يتوق العالم النامي إلى إعادة ابتكار حركة عدم الانحياز الفاشلة. كان مفهوم "العالم الثالث" والأفكار التي اشتقت منه (العروبة، والقومية الآسيوية أو الإسلامية) مجرّد تجربة فاشلة. رغم الضجة التي تُحدِثها هذه المفاهيم وسط جزءٍ من المحللين في الجنوب العالمي، لا يقتنع عدد كبير من القادة في العالم النامي اليوم بفكرة التفاوض الجماعي ضد الشمال العالمي. لقد أصبحوا أكثر حكمة الآن وزادت قدرتهم على تحقيق أهدافهم الوطنية الفردية.


MISS 3