ليس أمامنا سوى الخيار الذي كان أمامنا حتى قبل انفجار الثورة الشعبية السلمية: إمّا حكومة الإنقاذ الممكن، وإما حكومة الإنهيار المؤكد. ولا مجال للخلط بينهما. "مجموعة الدعم الدولية للبنان" حددت الخيار ورسمت له خريطة طريق. وهي كررت في اجتماع باريس التحذير من انهيار فوضوي للإقتصاد وزعزعة أكبر للإستقرار، والدعوة إلى حكومة "فاعلة ذات صدقية" تنفذ الإلتزامات والإصلاحات المطلوبة في مؤتمر سيدر وتمارس "النأي بالنفس عن التوترات والأزمات الأقليمية". والثورة طالبت من اليوم الأوّل بحكومة إختصاصيين تحقق الإصلاحات ومطالب الشعب، وتوقف السرقة والهدر والصفقات، وتخرج البلد من المأزق النقدي والإقتصادي. فضلاً عن قانون إنتخاب جديد لإجراء إنتخابات نيابية مبكرة، بما يعني إعادة تكوين السلطة.
وعلى طريقة المتنبي القائل "السيف أصدق إنباء من الكتب"، فإن الأوضاع في الشارع وفي كل بيت ومصنع ومدرسة أبلغ من أي بيانات سياسية في الداخل والخارج. لكن أهل السلطة، بمن فيهم المخيفون، خائفون على سلطتهم ونفوذهم من التغيير بأكثر مما يقلقهم الإنهيار المعلن. وهم يتذاكون بممارسة التعقيدات والمناورات لتغيير الموضوع. أما الثابت، فإنه حلف المصالح مع الأوليغارشية والتركيبة المالية. إذ تتم معاقبة الناس على جشع هؤلاء وسياساتهم الفاشلة التي أخذت البلد إلى ما بعد حافة الإنهيار، مع رفض تحمل المسؤولية والإصرار على البقاء في المراكز.
ذلك أن "المال هو المجتمع الجديد الواقعي، والرأسمالي مستعد لأن يبيعك الحبل الذي ستشنقه فيه" كما قال ماركس. والحياة، عند التركيبة السياسية والمالية، هي المال والسلطة. وما أبلغ رد كارا سونشير على الثري الكبير الذي انتقد دعوة المرشحة للرئاسة السناتورة اليزابيت وارن إلى فرض ضريبة على الثروة، حين قالت: "هل أنت فقير إلى هذه الدرجة، بحيث ان كل ما لديك هو المال؟".
ألسنا نعاني أوضاعاً تتحكم بها ممارسات سياسية ومالية تعيد التذكير بالمرابي الجشع في مسرحية، "تاجر البندقية" لشكسبير؟ ألسنا أسرى لعبة جيوسياسية تتقدم حساباتها على بؤسنا الإقتصادي وتؤكد بؤسنا السياسي، بحيث يستسهل مسؤول في الحرس الثوري الإيراني القول إنه "إذا ارتكبت اسرائيل أصغر خطأ تجاه إيران، فإننا سنسوي تل أبيب بالأرض من لبنان؟".
من السهل على طهران القول إن كلام الرجل خضع للتحريف. لكن من الصعب إنكار الإستراتيجية الواقعية التي جعلت لبنان وغزة وسوريا والعراق مواقع أمامية للدفاع عن إيران. وخيار الحكومة ليس خارج اللعبة الجيوسياسية.