عيسى مخلوف

تساؤلات حول اللغة الأمّ في يومها العالمي

14 كانون الأول 2019

09 : 56

في العام 2012، أعلنت منظمة اليونسكو "اليوم العالمي للّغة العربية" الذي يُحتفى به سنوياً في الثامن عشر من شهر كانون الأوّل داخل مقر المنظّمة الدولية وفي بعض المؤسّسات والمراكز الثقافية ومنها "معهد العالم العربي" في باريس. ولقد بدأ المعهد، هذا الأسبوع، احتفاله باللغة العربية، تحت عنوان "اللغة العربيّة إحدى لغات فرنسا"، من خلال سلسلة ندوات ولقاءات تتضمّن قراءات ومحترفات للخطّ العربي وعروض مشهدية تزاوج بين الشعر والموسيقى والرقص. تاريخ الاحتفال السنوي باللغة العربية يتوافق مع اليوم الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة اللغة العربية واحدةً من اللغات الرسمية الستّ في الأمم المتحدة، وكان ذلك في العام 1973.

من الأسئلة التي تُطرَح في هذا المجال بمناسبة أو من دون مناسبة: ما هو واقع اللغة العربية مقارنةً مع اللغات العالمية الأخرى، على مستويات الإبداع الأدبي والفكر والترجمة؟ كيف تتفاعل هذه اللغة مع الثورة العلمية والمعلوماتية، وأيضاً مع التقدّم التقني والتكنولوجي؟ بماذا يتميّز حضورها في الإنترنت، وهل من إضافات يشكّلها هذا الحضور؟ وكيف تتماشى مع تحوّلات العصر وتحدّياته بينما لا يزال تعليمها في الكثير من الدول العربيّة مربوطاً بالدين وليس تعليماً مدنياً يعتمد المناهج التربوية والتعليمية الحديثة؟

مع ترجمات التوراة في القرن التاسع عشر، تجاوزت اللغة العربية وظيفتها الروحية والتعليمية الطقسيَّة، فهذه الترجمات أطلقت تقليداً أدبياً جديداً يأتي من مكان آخر غير الكلاسيكية العربية المتوارثة، لا سيّما أنّ الذين تعهّدوا تنقيحها وإتقان صيغتها هم من أعلام الناثرين في القرن التاسع عشر والمعروفين بإتقانهم لغات وانفتاحهم على الثقافات: بطرس البستاني، ناصيف اليازجي، ابراهيم اليازجي، الشيخ يوسف الأسير وأحمد فارس الشدياق. ولقد اعتمد هؤلاء على لغة عربية صافية وطيّعة، فكّت النثر من جموده بعدما ابتعدت عن التأنّق المسرف. من هذه اللغة بالذات، انطلقت البوادر الأولى للأدب العربي الحديث التي نستشفّها في تجارب بعض الأدباء، ومنهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة. وكان جبران، في نفحته الأدبيّة ونثره الشعري، أكثر المتأثّرين بترجمات التوراة الى اللغة العربية تأثّرَه بالأدب الرومنطيقي الغربي.

من ترجمات "الكتاب المقدّس" والترجمات الأدبية، خصوصاً من اللغتين الفرنسية والإنكليزية، بدأ مسار جديد توسَّع معه الأفق الثقافي فنشأت فنون أدبية كالمسرح والقصّة وقصيدة النثر، وانفتحت اللغة العربية على اللغات الأخرى والثقافات الأخرى، ممّا سمح بالتعرّف على بعض التيارات الفكرية الحديثة التي سادت في أوروبا وترسّخت في مرحلة ما بين الحربين العالميتين.لكن، في الوقت الراهن، وليصبح مشروع الترجمة مشروعاً نهضوياً، ينبغي ألاّ يقتصر على النتاجات الأدبية والفنية فحسب، بل أن ينفتح أيضاً على العلوم الإنسانية والفكر المتجدّد والفلسفة، ويستوعب الاكتشافات العلمية الحديثة. وهذا لا يمكن أن تقوم به مبادرات فردية فقط لأنه يدخل في نطاق عمل المؤسّسات والدول. بعض الدول العربية اليوم بات يُعنى بهذا الموضوع ويرصد له الأموال الطائلة، لكن يبقى السؤال: هل يمكن، في ظلّ ثقافة تكثر فيها المحرّمات، الشروع في ترجمة كتب كان لها دور أساسي في تقدّم الغرب؟ من الذي سيقوم باختيار الكتب وترجمتها؟ وإذا ما تمّ تأمين الجانب المادّي لمشروع الترجمة، فهل يوجد ما يكفي من مترجمين متخصّصين، كلّ في مجاله، للقيام بالعمل المطلوب؟ اللغة ليست فقط وسيلة تعبير تنقل الآراء والأفكار، وإنما هي أيضاً طريقة في التفكير. إنها، بهذا المعنى، جزء لا يتجزّأ من الثقافة، وهي، في الوقت ذاته، مرآتها التي تعكس ملامح تقدّمها أو تخلّفها، وكذلك ثقل حضورها قياساً على اللغات الأخرى. والانفتاح على تلك اللغات من ضرورات عالمنا المُعَولَم، لكن مع التشديد على أهمية التنوّع الألسني، لأنّ سيطرة لغة واحدة على سائر اللغات تشبه سيطرة ثقافة واحدة على الثقافات كلّها. والفكر الواحد تسلُّطي ومستبدّ مهما كان نوعه. في هذا السياق، نلتفت إلى اللغة الإنكليزية التي باتت تنتشر في القارات الخمس وتمثّل تهديداً يواجه الإرث الإنساني بأكمله. فاللغات التي تفرض نفسها هي التي تمارسها دول تتفوّق بقدراتها العسكرية والاقتصادية، ولغات الدول المسيطرة تقود، في الغالب، الى اندثار لغات اخرى. هناك خمس وعشرون لغة تختفي كلّ سنة. وفي حين يتراجع دعم اللغة الفرنسية وعدد مراكز تعليمها ("أليانس فرانسيز")، عمد الصينيون إلى فتح مئات المراكز ("كونفوشيوس") لتعليم اللغة الصينية في العالم. عبر اللغة، تبدأ أيضاً الحرب الاقتصادية، وحرب الثقافة.

والحال هذه، لا يعود السؤال: ماذا يقدّم العرب من لغتهم ونتاجاتهم للعالم، بل أيضاً ما الذي يأخذونه منه، وبأيّ طريقة، وكيف يمكن تثميره في إثراء الثقافة والحياة؟


MISS 3