إيريك جونز

مفارقات بارزة في الإنتخابات الإيطالية

26 أيلول 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف جيورجيا ميلوني خلال تجمّع انتخابي في كاسيرتا | إيطاليا، ١٨ أيلول 2022
صوّتت إيطاليا على حكومة وطنية جديدة وقد تعطي نتائج الإنتخابات البرلمانية تداعيات هائلة على البلد كله، والإتحاد الأوروبي، وحلف الناتو. إذا كانت أرقام الاستطلاعات صحيحة، يعني ذلك أن الائتلاف اليميني سيفوز بأغلبية مقنعة، وأن حزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف سيختار زعيمته جورجيا ميلوني كأول رئيسة حكومة يمينية متطرفة في إيطاليا منذ بينيتو موسوليني. ترفض ميلوني أن يربطها أحد بالفاشية، مع أن حزبها يحتفظ بعدد من الرموز والقيم المشتقة من الماضي الإيطالي الفاشي. ليس مفاجئاً إذاً أن تتأجج مخاوف الأسواق والمراقبين الدوليين من احتمال وصولها إلى السلطة.

رغم القلق الدولي من هذا الاحتمال، قد تكون ميلوني القوية أفضل من ميلوني الضعيفة. هي تسعى في الوقت الراهن إلى التخلص من الصورة الشعبوية العامة التي عُرِفت بها سابقاً، وتحاول أن تطرح نفسها كمحافِظة تقليدية. تتماشى السياسات التي تفضلها مع توجيهات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو عموماً، ما يعني أن الجهة التي تطرح أكبر تهديد على استقرار إيطاليا ومكانتها في الغرب ليست ميلوني، بل عدد من حلفائها المحتملين في الائتلاف، لا سيما زعيم "حزب الرابطة" الموالي لروسيا والمُسبب للمشاكل، ماتيو سالفيني.

على المدى الطويل، قد تؤذي ميلوني الديمقراطية في إيطاليا. هي تحمل طموحات واضحة بتقوية السلطة التنفيذية كي تتفوق على سلطة البرلمان، وتريد ترسيخ مكانتها الخاصة. من المتوقع أن تطلق نزعتها المحافِظة وأجندتها المرتبطة بإصلاح الدستور جدلاً واسعاً داخل إيطاليا وفي أنحاء أوروبا. لكن على المدى القصير والمتوسط، قد يكون دور ميلوني القوية في ترسيخ الاستقرار أكبر من دورها التخريبي. أما ميلوني الضعيفة، فقد تضطر لإيجاد تسوية مع سالفيني بطريقة لا يحبذها حلفاء إيطاليا. حتى أن أداء ميلوني الضعيف قد يترك إيطاليا بلا حكومة تزامناً مع احتدام الأزمات الوطنية.

نجحت ميلوني في التفوق على حركة "خمس نجوم" و"حزب الرابطة" حين قررت البقاء خارج حكومة ماريو دراغي. كان دراغي مسؤولاً تكنوقراطياً، وقد ترأس البنك المركزي الأوروبي قبل توليه منصب رئيس الوزراء في العام 2021. كانت سياساته وسطية وموالية للاتحاد الأوروبي، وأراد في المقام الأول أن يُحضّر إيطاليا لتلقي الدعم الأوروبي والتعافي من أزمة كورونا عبر إصلاح المحاكم والخدمة المدنية ومؤسسات أخرى.

كان دراغي يمثّل أيضاً أسلوب الحُكم الذي لا يسمح بنشوء احتجاجات داخلية واسعة، فهو شكّل حكومته الائتلافية عبر الإصرار على أهمية الإجماع والمسؤولية الجماعية، وشارك "حزب الرابطة" وحركة "خمس نجوم" في جميع مراحل إصلاح المؤسسات، وحصلت ميلوني وحزب "إخوة إيطاليا" بذلك على فرصة مناسبة لاتهام هذين الحزبَين بالنفاق.

نتيجةً لذلك، تراجعت نسبة تأييد "حزب الرابطة" و"خمس نجوم" في الاستطلاعات خلال عهد دراغي، لأن الناخبين اعتبروا قرارهما بدعم حكومة تديرها السلطات التقليدية إثباتاً آخر على تخلّيهما عن مبادئهما الشعبوية السابقة. ثم جاءت نهاية حكومة دراغي لتعطي دفعة داعمة لميلوني التي تحظى راهناً بدعم ناخبين يبحثون عن وجوه جديدة. وفق أحدث استطلاعات الرأي، يتجه حزب "إخوة إيطاليا" اليوم إلى حصد أكثر من ربع الأصوات الوطنية.

بعدما أكدت ميلوني على تفوّقها في معسكر الناخبين المحتجين، من المبرر أن تطرح نفسها كرئيسة حكومة جديرة بالثقة وأن تسعى إلى تقوية مصداقيتها الدولية. هي تعرف أن صمود حكومتها على المدى الطويل يتوقف على تقبّل الأسواق لقيادتها، لذا تحرص على بذل الجهود اللازمة كي تثبت أن جميع الفئات تتقبلها. في الفترة الأخيرة، طمأنت ميلوني حلفاءها حول التزام حكومتها المستمر بدعم أوكرانيا، حتى أنها أوضحت دعمها الصريح لانتساب إيطاليا إلى منطقة اليورو، على عكس تصريحاتها السابقة. كذلك، يُعتبر البيان الانتخابي المشترك الذي وافقت عليه ميلوني مع سالفيني وسيلفيو برلسكوني مُطمْئِناً للمعتدلين بشكل عام، فهو يتعهد "باحترام التزامات إيطاليا باعتبارها جزءاً من حلف الأطلسي" و"الالتزام التام بالتكامل الأوروبي".

يريد سالفيني أن يتحدى قيادة ميلوني، ولا يمكنه أن يحقق هدفه إلا عبر استرجاع أصوات المحتجين. تقضي استراتيجيته بالتفوق على ميلوني في أوساط المتطرفين. اقترح "حزب الرابطة" ضريبة ثابتة بدل ضريبة الدخل التصاعدية المعتمدة راهناً، وإصلاح نظام التقاعد لمنح جميع الإيطاليين الحق بتلقي معاش تقاعدي كامل بعد 41 سنة من العمل. تشير التقديرات إلى بلوغ كلفة هذه الخطط وحدها 57 مليار يورو إضافية سنوياً، أي ما يساوي حوالى 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي. قد تطلق هذه الخطط المبنية على الاقتراض المفرط مواجهة أخرى حول الميزانية مع بروكسل، بما يشبه تلك التي برمجها سالفيني في العام 2018.

في المقابل، قد تطلق هذه الظروف أزمة ثقة أخرى في أسواق إيطاليا، حيث يواجه الاقتصاد المديون احتمالات ديمغرافية سيئة وتوقعات قاتمة في مجال النمو الاقتصادي. قد يزداد الوضع سوءاً بعدما أوضح البنك المركزي الأوروبي أنه لن يتدخل لمنع اضطرابات الأسواق في الدول الأعضاء التي لا تلتزم بالقواعد المالية المعتمدة في بروكسل. في غضون ذلك، قد تؤدي أزمة الثقة بقدرة إيطاليا على تسديد ديونها إلى التشكيك بصمود العملة المشتركة على المدى الطويل، كما حصل بين العامين 2011 و2012. من الناحية الجيوسياسية أيضاً، يبدو موقف سالفيني غير جدير بالثقة، فهو دعا منذ بضعة أسابيع إلى إعادة النظر بعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، مع أنه عاد وتراجع عن موقفه.

يتكلم سالفيني عن ارتفاع الأسعار ومعدلات الفائدة في إيطاليا للدفاع عن اقتراحاته المرتبطة بالتخفيضات الضريبية، وإصلاح معاشات التقاعد، وزيادة الإنفاق العام، وتخفيف حدّة الرد الأوروبي على الحرب الروسية ضد أوكرانيا. هو يعتبر نفسه رجلاً من الشعب. إذا أرادت ميلوني أن تمنعه من التفوق عليها، فيجب أن تقنع الإيطاليين بأن ارتفاع فواتير الكهرباء ثمن مقبول مقابل أمن أوروبا على المدى الطويل، وأن التحويلات المالية الضخمة ليست طريقة مسؤولة للتعامل مع المصاعب الاقتصادية التي يواجهها الشعب. لن يسهل إقناع الناس بأيّ من هاتين الفكرتَين، إذ يفضّل 51% من الناخبين الإيطاليين إنهاء العقوبات على روسيا، وفق استطلاع رأي جديد، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة بحلول الشتاء.

تتعلق أكبر مشكلة تواجهها ميلوني بتحديد الطريقة المناسبة لتعديل مواقف سالفيني أو التكيّف معه، من دون إضعاف مصداقيتها مع الشركاء في الاتحاد الأوروبي والمستثمرين الدوليين. من خلال التنازل في هذه المسائل، تجازف ميلوني بكسر وحدة الجبهة الغربية في الملف الأوكراني أو بافتعال خلاف مع الاتحاد الأوروبي بسبب حجم الميزانية، أو الاثنين معاً. سيكون هذا السيناريو كارثياً. وحتى لو تمسّكت ميلوني بموقفها، لا مفر من أن يشكك الكثيرون بقدرتها على تحمّل ضغوط سالفيني القوي إذا أصبح جزءاً من حكومتها.

لكن لن يتمكن سالفيني من الضغط على ميلوني إلا إذا تابع فرض سيطرته على "حزب الرابطة". أصبح حزبه منقسماً داخلياً بين فريق متطرف يريد الحفاظ على مكانة الحزب كصوت احتجاجي، وفريق معتدل يفضّل اتخاذ موقف وسطي ويظن أن سالفيني فوّت فرصة مهمة حين شارك في إسقاط حكومة دراغي. تتعدد المؤشرات التي تثبت تأييد قطاع الأعمال لموقف ميلوني الأكثر اعتدالاً. خلال منتدى "أمبروسيتي" السنوي في "سيرنوبيو"، وهو أهم تجمّع للصناعيين والممولين ورجال الأعمال المرموقين في إيطاليا، حصدت ميلوني الإشادة حين تعهدت بمتابعة الأهداف العامة التي حددها دراغي. لا يستطيع سالفيني أن يتحمل خسارة هذه الفئة الأساسية من الناخبين.

إذا تلقى "حــــزب الرابطة" أقل من 10% من أصوات الناخبين، وهي نسبة ضعيفة بالنسبة إلى سالفيني، سيضطر هذا الأخير لتحسين مكانته داخل حزبه بدل التشاجر مع ميلوني. في هذه الحالة، قد تصبح ميلوني أكثر قدرة على تعديل سياساتها وتحسين مصداقية حكومتها داخل أوروبا، وحلف الناتو، وأسواق السندات، ومن دون تدخّل حليفها غير الموثوق به.

تبدو النتائج المحتملة الأخرى أقل إيجابية. قد تؤدي أي نتيجة سيئة لميلوني إلى نشوء حكومة يمينية ضعيفة قد تنهار قبل انتهاء ولاية البرلمان الممتدة على خمس سنوات، أو حتى خلال بضعة أشهر، ما يجبر إيطاليا على إعادة الانتخابات تزامناً مع وصول كلفة المعيشة وأزمة الطاقة إلى أعلى مستوياتها. الأسوأ من ذلك هو أن يتّضح ضعف ميلوني للجميع، فتعجز عن تشكيل حكومة ائتلافية منذ البداية، نظراً إلى عمق الانقسامات في معسكر اليسار الوسطي وعجز حزب "إخوة إيطاليا" عن حُكم البلد مع "الحزب الديمقراطي". هذا الوضع قد يبقي إيطاليا بلا حكومة تزامناً مع تفاقم الأزمة الوطنية.

لكن إذا أثبتت ميلوني قوة أدائها، يمكنها أن تضمن الاستقرار على الأقل وتتحمّل مسؤولية حُكم إيطاليا. لقد أوضحت ميلوني، من خلال تعديل مواقفها الشعبوية السابقة بدرجة ملحوظة في الأشهر الأخيرة، أنها تدرك حجم المخاطر المطروحة. على المدى الطويل، سيضطر الإيطاليون لتقييم أجندتها اليمينية المتطرفة وخططها الرامية إلى تغيير الديمقراطية التي يعرفونها. لكن على المدى القصير، تبقى ميلوني القوية أفضل من ميلوني الضعيفة بالنسبة إلى إيطاليا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وأوكرانيا.


MISS 3