د. عماد شيّا

الإستحقاق الرئاسي واللعنة المستمرّة

26 أيلول 2022

02 : 00

عندما تتصفح تاريخ لبنان منذ الإستقلال، لا بد وأن يلفت انتباهك ما يشبه لعنة تصيبه وتدميه عند نهاية كل عهد رئاسي، حتى بات يصح تسميتها لعنة الاستحقاق الرئاسي. ولعل أكثر اللعنات ديمومة وجهنمية وأشدها وبالاً على البلاد والعباد كانت لعنة الرئاسة الراهنة الآيلة إلى الانتهاء.

قبيل نهاية عهد الرئيس الأول بعد الاستقلال بشارة الخوري، بدأت ملامح لعنة الاستحقاق الرئاسي تلوح بالأفق مع عملية التزوير التي شابت انتخابات عام 1947 النيابية اي قبل نهاية العهد بسنتين، واتّضحت الغاية من التزوير عندما جدد المجلس الجديد لعهد الرئيس بشارة الخوري، فحلّت اللعنة عام 1952عندما تحرك معظم اللبنانيين مطالبين باستقالة الرئيس الذي واجه لعنة تجديد انتخابه بحكمة، متخذاً قرار التنحي عن الحكم من دون عنف وقد اشتهرت هذه اللحظة باسم «الثورة البيضاء» او «التغيير الأبيض».

لعنة الاستحقاق الرئاسي حلت مرة ثانية عام 1958، حين جرت الانتخابات النيابية على أساس قانون ودوائر تؤمن فرصة التجديد لعهد الرئيس كميل شمعون لولاية جديدة. وقد أدت نتائج الإنتخابات إلى إسقاط رموز وطنية كبيرة في مناطق مختلفة، والى تصاعد حدة المواجهة السياسية وصولاً إلى المواجهات العسكرية. وكان للجيش اللبناني وقائده اللواء فؤاد شهاب دور أساسي في مواجهة تداعيات الاستحقاق الرئاسي ووضع حد للأحداث وفق صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، التي ارستها الموازين الإقليمية الدولية حينذاك، ورجحت كفة وصول اللواء شهاب الى الرئاسة.

يمكن اعتبار زهد الرئيس فؤاد شهاب وعدم قبول انتخابه مرة ثانية، إستثناء نادراً جنّب البلاد والعباد لعنة الاستحقاق الرئاسي، والأمر نفسه انسحب على الرئيس شارل حلو الذي أعتُبر عهده امتداداً للعهد الشهابي الأول.

لم يطل الأمر حتى عادت اللعنة لتطل في منتصف سبعينات القرن الماضي، قبيل حلول الاستحقاق الرئاسي مع قرب نهاية عهد الرئيس سليمان فرنجية، وكان للتدخل العسكري السوري بناء لطلب الجبهة اللبنانية، المساعدة في وقف تمدد القوات المشتركة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية آنذاك، اليد الطولى بإنجاز الاستحقاق الرئاسي ووصول الرئيس الياس سركيس عام 1976 الى سدة الحكم.

لعنة الاستحقاق الرئاسي عادت مجدداً لتقض مضاجع اللبنانيين صيف عام 1982 مع قرب انتهاء ولاية الرئيس سركيس، ولم يكن الاجتياح الاسرائيلي في ذلك الصيف بمنأى عن استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، حيث ساهم في تلك الظروف برفع أسهم انتخاب الرئيس بشير الجميل الذي حال اغتياله في 14 أيلول 1982 دون استلامه الحكم.

مع نهاية عهد الرئيس أمين الجميل في أيلول عام 1988، بدت لعنة الاستحقاق الرئاسي كأنها باتت قدراً سيئاً يتربص باللبنانيين مع قرب نهاية كل عهد، وكان لعدم انجاز الاستحقاق الرئاسي، وتعيين قائد الجيش الجنرال ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية الى جانب الحكومة القائمة برئاسة الدكتور سليم الحص، نتائج كارثية ان على مستوى الحكم وادارة شؤون البلاد وانقسامها بين حكومتين، او على صعيد الاقتتال والحروب العبثية.

تابعت لعنة الاستحقاق الرئاسي بعد اتفاق الطائف عام 1990 حصد ضحاياها، وكان الرئيس رينيه معوض أولهم. وبعدما استقر الوضع اللبناني بالكامل ومعه الاستحقاق الرئاسي بعهدة الوصاية السورية، ووفق المثل الشعبي «إبليس ما بيخرب وكرو»، قيض لأشباح الوصاية تأمين إنتخاب الرئيس الياس الهراوي والتجديد له حتى عام 1998، وبعده فرض تعديل الدستور وانتخاب قائد الجيش العماد أميل لحود رئيساً لولاية امتدت حتى عام 2004. لكن اللعنة اصابت البلاد بقسوة عندما اصر النظام الامني السوري ـ اللبناني المشترك على فرض تمديد عهد الرئيس لحود بالقوة، وكان ثمن مواجهة قرار التمديد باهظاً، فبدأ مسلسل الاغتيال الوحشي الممنهج مستهدفاً الرئيس رفيق الحريري ونخبة من السياسيين والنواب والصحافيين الرافضين لهيمنة الوصاية السورية واستمرارها.

بنتيجة اصرار اللبنانيين على المواجهة باللحم الحي لا سيما في 14 شباط و 14 آذار 2005، انتهت الوصاية السورية المباشرة في 30 نيسان 2005، وبعدها في عام 2007 انتهى عهد الرئيس لحود الممدّد بالحديد والنار. لكن لعنة الاستحقاق الرئاسي لم تنته معهما. فـ»ملائكة الوصاية» خرجت من اوكارها في 7 أيار 2008 واجتاحت العاصمة بيروت وبعض مناطق الجبل، لتفرض عقب هذه الأحداث في مؤتمر الدوحة رئاسة جمهورية مقيّدة وقواعد حكم هجينة، فكان عنوان المرحلة الاتفاق على قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وتكريس سابقة الثلث المعطل في تشكيل الحكومات.

لعنة الاستحقاق الرئاسي المديدة ضربت لبنان مجدداً مع نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان في أيلول عام 2014، حيث بقي مقعد الاستحقاق معطلاً وكرسي الرئاسة فارغاً ومحجوزاً من قبل قوى التعطيل على مدى سنتين، ليسترخي عليه منذ العام 2016 العماد ميشال عون، فيما البلاد تضربها الكوارث والنكبات وتحترق العاصمة وابناؤها بجحيم المرفأ، ويموت اللبنانيون هرباً بزوارق الموت من الجوع والبؤس والمرض في جهنم العهد العوني.

تبين مراجعة محطات الاستحقاق الرئاسي منذ الاستقلال وجود ما يشبه لعنة مستمرة تحيط بهذا الاستحقاق، ويرتبط نوع ودرجة تأثيرها بعوامل داخلية وخارجية، وبصفات وطبع الرؤساء المتعاقبين، فمنهم مَن تعامل مع لعنة الاستحقاق الرئاسي بخلفية وطنية وبحكمة أو بزهد، ومنهم مَن كان كبش فداء، ومنهم من تعامل بتعنت وصلف، ومنهم بكل أسف مَن بات يعتبره معظم اللبنانيين اللعنة بعينها ويصلّون ليل نهار للخلاص منها.