محمد علي مقلد

تجفيف مياه نبع الطاسة جريمة بيئية وفضيحة فساد

27 أيلول 2022

02 : 00

على ضفاف النهر تربينا وباسم النبع الذي يتدفق منه تباهينا، ومن نبعه حتى المصب الذي حمل اسمه، الزهراني، قضينا، نحن أبناء القرى التي تشرف على مجراه، أجمل أيام الطفولة والمراهقة في صيد العصافير والسباحة وزراعة الخضار وقطف الثمار وفرط الجوز أو في مرافقة أهلنا إلى مطاحن القمح أو معاصر الزيتون، يوم كانت المياه مصدراً أساسياً للطاقة.



يروي يوسف سالم في مذكراته أنه حين تولى إدارة مصالح المياه في لبنان أيام الاستقلال، أي في أربعينات القرن الماضي اشترت الدولة من النائب يوسف الزين والد النائب عبد اللطيف الزين، رحمهما الله، مشروعه لجر المياه من نبع الطاسة إلى كفررمان والنبطية، الذي كان قد نفذه لحسابه الخاص في عهد الانتداب، لقاء مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة لبنانية، ثم نفذت، في ما بعد وبموازاته، مشروعاً لجر المياه إلى القرى الواقعة شرق مدينة صيدا، وجمعتهما بمصلحة واحدة باسم مصلحة مياه نبع الطاسة. كان ذلك مؤشراً على أن الدولة بدأت تمسك بزمام الخدمات العامة بعد انخراط الزعامات الإقطاعية المحلية في الدولة.



في صيف 1965، وكنت قد تخرجت لتوي من دار المعلمين والمعلمات، منّ العهدان الشهابيان علينا بنعمة الكهرباء، ولست أذكر كيف تملصت من إلقاء كلمة في استقبال فخامة الرئيس شارل حلو يوم حل على المنطقة ضيفاً لتدشين محطة ضخ مياه النبع إلى قرى في منطقة جزين وإلى قرية جرجوع في قضاء النبطية.



لم نحسن التقاط الدلالات السياسية للحظة الشهابية تلك. من بينها أن الكهرباء كانت أحد أبواب انصهار الجنوب ومناطق نائية أخرى في الكيان اللبناني. الكهرباء هي أهم اكتشاف بشري، هو أصل الاكتشافات. ما من آلة تتحرك إلا ويكون له فضل في تشغيلها.



لا خريجو المرحلة الشهابية ولا حتى المعجبين بلينين وقراره بتعميم الكهرباء بعد الثورة، استوعبوا الدرس. سنوات قليلة بدأنا نقرأ على جدران القرية «لبنان للبنانيين أحبه أو غادره»، وفي وديان النهر بدأت التدريبات على حمل السلاح، لا ضد مؤسسات الدولة فحسب بل ضد الفكرة والمفهوم أيضاً، ودفاعاً عن الثورة الفلسطينية، وكان ما كان، وانفجرت الحرب الأهلية.



قبل الحرب الأهلية كان فساد، لكنه كان محدوداً ثم تكاثر خلالها وتفاقم بعدها إلى أن صارت الحرب حرباً، لا على الشعب والدولة فحسب بل على ما أنجزه الأسلاف، على الكهرباء كما على الوحدة الوطنية، وانتهى الأمر ببلادنا من تعميم النور أيام الشهابية إلى تعميم العتمة العونية، ومن احترام القوانين وفرضها بقوة المكتب الثاني إلى الاستقواء على الدولة ودستورها بقوة التشبيح الميليشيوي.



أخذت الميليشيات تستولي على الدولة ومؤسساتها وتمكنت من تمويل مشاريعها من أموال الخزينة، فلم تكتف بجر مياه النبع المتدفقة كلها بل تمادت في تجفيف المجرى حتى من الينابيع الصغيرة، وحفرت حول النبع آباراً ارتوازية، ولم تترك لمالكي الأراضي أي نقطة ماء لري أراضيهم الزراعية. وفي كل هذه المشاريع كانت تفوح فضائح الفساد وترتكب جرائم بحق البيئة.



بعد الانسحاب الإسرائيلي قرر المتنفذون بناء سدود على مجرى النهر بتمويل من أموال الصناديق. للأسف لم تصمد تلك السدود أمام أول زخة مطر. مع ذلك ها هم اليوم يكررون الفضيحة والجريمة فيعملون على تغيير معالم النبع والنهر وقطع الأشجار المحيطة بالمجرى وبيعها، وليس المقصود توزيع المياه للشفة أو للري بل الإنفاق هدراً على مد شبكات لا تجري المياه فيها، مثلما شيدت مبان مدرسية ضخمة على امتداد الجنوب من غير طلاب.



ومن عجب أنهم بالرغم من الانهيار المالي والاقتصادي الذي تشهده البلاد استحصلوا على تمويل مشروع وهمي، وقرروا، بعد تجفيفهم ماء النهر والينابيع الصغيرة حول مجراه، مد شبكة لجر مياه «السيول الشتوية»، كما يدعون، بالأنابيب الضخمة، وتجميعها بعيداً عن النبع، مع أن مياه السيول تعرف مجراها من دون أنابيب. والفضيحة الأكبر أن المجلس البلدي في جرجوع اختار مطلاً جميلاً على وادي النهر وجعله مصباً لشبكة الصرف الصحي، وعلى بعد أمتار قليلة منه أعطى لإحدى المؤسسات السياحية ترخيصاً باجتذاب السياح.



الفساد ليس فحسب نهباً للمال العام بل شبكة تسرق النور لتعمم العتمة، وتسرق من قرانا جمالها وتعمل على تصحير الجبال وتصحير العقول وتعميم الجهل. الفساد، بحسب قول منسوب إلى أحد الصحابة، هو نتاج زمن «الرويبضة، الزمن الذي يسوس فيه العامة سفهاء العامة».