مجد بطرس حرب

مساحة حرة

نعم العدل أساس الحكم

17 كانون الأول 2019

02 : 00

من داخل إحدى الخيم المحترقة في ساحة الشهداء (فضل عيتاني)

هزّت صرخة الشعب هياكل السلطة، أسقطت المحرمات، فبعثت الخوف في نفوس الفاسدين، ووضعت المؤسسات القضائية والرقابية تحت مجهر الرأي العام، فأصبحت مضطرة إلى إخراج ملفات الفساد من الجوارير التي كانت مدفونة فيها.

الشعب طالب بالمحاسبة بأعلى صوته، وبات على القضاء، الذي يصدر أحكامه "باسم الشعب اللبناني"، أن يستجيب.

فلا من مغاور أكبر، ولا بؤر أعمق من الوزارات التي يتولاها وزراء فاسدون.

إستفاق الشعب بعد طول انتظار ومعاناة، فأسقط هالة المسؤولين، ولا سيما الطبقة السياسية والرؤساء والوزراء، الذين كان " يؤلّههم سابقاً، ووضعهم في خانة الشبهة والاتهام. إلا أن احتمال خيبته ستكون كبيرة، إذا لم يُحاسب الفاسدون، ولا سيما بعد أن أثيرت قضية وجود حصانة وهمية للرؤساء والوزراء، وبعد أن اعتمد بعض القضاة سياسة الـ "أنا ما إلي علاقة"، وأحالوا الملف إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

إن ما يدفعنا إلى هذا الاستنتاج أن تاريخ الجمهورية اللبنانية لم يشهد إتهام أي وزير من قبل مجلس النواب، ولا محاكمته أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والسبب أن الموازين السياسية تتحكم بآلية الاتهام، وبالتالي بالمحاكمة. فالدستور أعطى مجلس النواب حق طلب اتهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء، بناء لطلب خمس أعضائه (أي 26 نائباً)، وحق اتهامهم بقرار يصدر عن الهيئة العامة للمجلس بالأكثرية المطلقة من أعضائه (أي 65 نائباً)، وحق تشكيل لجنة تحقيق نيابية تحقق بصحة الاتهام، على أن ترفع اللجنة تقريرها من جديد للهيئة العامة، التي يعود لها صلاحية توجيه الاتهام بأكثرية ثلثي أعضاء مجلس النواب (أي 86 نائباً)، وهو ما لم يحصل مرة في الماضي، ولن يحصل في المستقبل.

ففي طلب إتهام الوزير شاهي برصوميان العام 2000 مثلاً، وبعد أن صدر بحقه مضبطة إتهام بجرائم التزوير والاختلاس من القضاء العادي، بعد ثبوت ارتكابه لهذه الأفعال الجرمية، وبعد أن قررت محكمة الجنايات الناظرة في الملف عدم صلاحيتها، باعتبار النظر فيه من صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، أحيل الملف إلى مجلس النواب، حيث لم يحصل إتهامه لعدم تصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب على طلب إتهامه وإحالته إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ما منع محاكمته في الوقت الذي حوكم شركاؤه من الموظفين الذين نفذوا أوامره وأدينوا.


والسؤال المطروح اليوم بإلحاح، وبعد أن استفحل الفساد، وألحق بلبنان خسارات تقدّرها المؤسسات الدولية بمئات مليارات الدولارات، هل سمع أهل الحكم ومجلس النواب والقضاء صوت الشعب المطالب بمحاسبة الفاسدين، وقرروا جدياً تلبية مطالب الناس، كما يتباهون ويعلنون، أم أنهم لا يزالون يناورون ويتهربون من المساءلة الجدية للمسؤولين خوفاً من أن تطالهم، وإلى متى يبقى بعض القضاة متواطئين مع أهل السلطة الفاسدين يساعدونهم على لفلفة الجرائم التي يرتكبون.



وهل قررت السلطة القضائية ممارسة صلاحياتها في محاسبة الفادسين، أياً كانوا، ومهما علا شأنهم واشتد بأسهم، وإجراء التحقيقات بكل الأفعال الجرمية المنسوبة للرؤساء والوزراء الفاسدين، أم أنهم سيستمرون بسياسة رفع يدهم عن هذه الملفات، تنفيذاً لتوجيهات أهل السلطة، أو تفادياً لمواجهة الفاسدين، كما حصل أخيراً مع النائب العام المالي في ملف وزارة الاتصالات، وذلك بالرغم من حسم هذا الأمر من قبل محكمة التمييز بهيئتها العامة العام 2000، كما حسمته محكمة التمييز العام 2003 في محاكمة الوزير علي عجاج عبد الله، بأن الأفعال الجرمية، كالاختلاس والتزوير واستثمار الوظيفة، التي يرتكبها رؤساء الحكومة والوزراء بمعرض ممارستهم لوظيفتهم، تخضع لصلاحية القضاء العادي وليس المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

حصانة وهمية

إستفاق الشعب بعد طول انتظار ووضع الوزراء "المؤلهين سابقاً" في خانة الاتهام، وإذ بنا نصطدم بحصانة وهمية غير موجودة، وآلية مهترئة تعيد الملفات إلى جوارير المجلس النيابي ويا "محلى جوارير القضاة".

اليوم، ونحن بأمس الحاجة لإخراج ملفات الفساد من أيدي السلطة السياسية، نشهد إحالة ملفات الفساد المرتبطة بوزراء إلى المجلس النيابي وليس إلى القضاء الجزائي.

من يتذرع بحصانة وزير، أو بضرورة محاكمته أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يستند إلى المادة /70/ من الدستور، التي تحصر إتباع هذه الآلية في حال الإخلال بالواجبات الوظيفية والخيانة العظمى، كما أن هذه المادة تعطي خيار الإدعاء إلى المجلس النيابي، ولكنها لا تلزمه بواجب الملاحقة ولا تحصره فيه. وقد فسرها الاجتهاد المستقر أنها تعني فقط الأفعال المتصلة مباشرة "بالوظيفة الوزارية"، وليس الأفعال الجرمية الذي يرتكبها الوزراء في معرض ممارستهم لوظيفتهم.

إن الأفعال المتصلة مباشرة "بالوظيفة الوزارية" مبنية على مبدأ الخدمة العامة بشكل قانوني، وهذه المهام تحظى، وعن حق، بحصانة ما منعاً لعرقلة مصالح الدولة والمواطنين. أما عندما يتهم الوزير بجرم غير مرتبط بالمصلحة العامة، وعندما يتهم بتبدية مصلحة شخصية وسياسية على المصلحة العامة، عليه أن يحاكمَ مثله مثل أي مواطن آخر، ومن هذه الزاوية تعتبر أفعال الاختلاس والهدر غير المرتبطة بالخدمة العامة، أي بمهام الوزير القانونية، أفعالاً جرمية خاضعة لصلاحية القضاء العدلي.

وهذا ما أجمع عليه إجتهاد المحاكم الفرنسية والأكثرية الساحقة من المحاكم اللبنانية، إذ حوكم في فرنسا الوزير ميشال نوار أمام القضاء العدلي بعد أن عمد إلى إقامة غداء لفريق عمله على نفقة وزارته، ما يشير إلى التناقض بين تفاهة مخالفة هذا الوزير وخطورة الممارسات الجرمية لوزراء في لبنان. ففي فرنسا ليس من حصانة للوزراء، أما في لبنان فتتمسك الطبقة الحاكمة بحصانة مزعومة لحماية فسادها، ويماشيها بعض القضاة في هذا التوجه.

إن دولة الحق مرتبطة برقابة فعلية، نزيهة ومستقلة، وما يطالب به الملايين اليوم في الشارع، لن يتحقق إلا باستقلال السلطة القضائية وممارستها لرقابة فعلية على السلطة السياسية التي لن تحاسب نفسها.

فعندما تميز المحاكم بين الوزير والمواطن، يختلّ ميزان العدل، وعندما تحصل التشكيلات بناءً على إنتماء القضاة السياسي، يتحول القضاء إلى أداة سياسية في خدمة الحاكمين، وعندما تفسّر النصوص القانونية وفقاً لهوية الوزير المتهم السياسية، تبقى المحاسبة شعاراً فارغاً وكذبة كبيرة.

لا يجوز أن نقبل بعد اليوم باستمرار حكّامنا خارج المساءلة، سياسياً إذا أخطأوا، وجزائياً إذا أجرموا. كما لم يعد جائزاً أن تصدر الأحكام حسب رغبة الحاكمين، لأنها يجب أن تصدر باسم الشعب اللبناني، وأن تطال المسؤولين الذين بلغ غرورهم حد اعتبار أنفسهم أشباه آلهة لا حسيب ولا رقيب على أفعالهم.

وفي الخلاصة، لا يجب أن ننخدع بأي شعار أو وعود، هذه هي فرصة إنقاذ لبنان من جلاديه، ومن الكفر تفويتها لأنها قد لا تتكرر.


MISS 3