ساندي الحايك

أدراج بيروت: "قادوميات"...تراث وخطوات عاشقين

5 تموز 2019

15 : 22

"من يعرف بيروت حق المعرفة، هو الذي يعرف كيفية التنقل فيها بالقفز من درجٍ إلى آخر". هكذا ردّد الرجل الكهل الجالس على كرسي بلاستيكي عند الدرج الطويل. استفزّه فضولي وكثرة أسئلتي بغية اكتشاف أسرار المكان. عدّل جلسته على كرسيه. نفث دخان سيجارته بشهية وتمتم: "هذا درج مار نقولا. أطول الأدراج في الأشرفية. يضم أكثر من 200 درجة ويمتد بطول 150 متراً تقريباً ويحيط به حوالى 13 مبنى". أزاح قبعته يساراً بحركة عفوية خاطفة وتابع: "كان المكان قبل الدرج عبارة عن طريق رملية "قادومية"، للبني آدمين يعني، لكن في أواخر حُكم السلطنة العثمانية رُصف بالحجارة".
تمت إعادة تأهيل الدرج مرات عدّة إلى أن استقر على وضعه الحالي، مسطحات حجرية عريضة بُنية اللون. العديد من أبناء المدينة يستخدمونه لاختصار المسافات في التنقل بين الأشرفية وأحياء الجميزة، ونظراً لشهرته بات منصة يعتمدها الكثير من الجمعيات المدنية لإقامة نشاطات ثقافية على مدار السنة، تستقطب سكان المدينة من مختلف الجنسيات والأعمار، من هنا اكتسب لقبه "درج الفن".
درجات رغم صمتها تسرد قصص الأزمان. تدل على من مرّوا عليها، ومن رحلوا عنها، ومن أنشدوا الحُب والموسيقى، ومن رموا فوقها أثقالهم فجلسوا طويلاً يرتاحون من تعب مضنٍ. على يمين الدرج شبكٌ أبيض غزته الأقفال المُحمّلة بالأمنيات كما كانت الحال فوق جسر الفنون في باريس قبل أن تقدم بلدية المدينة على نزع الأقفال في العام 2015، بعدما أصبحت تشكل ثقلاً يهدد السلامة العامة. وكما في باريس الأمس كذلك في بيروت اليوم، أقفال من مختلف الأحجام بأشكال وألوان متعددة. بعضها خُطت عليه كلمات حُب وأسماء عاشقين ورسومات على شكل قلوب، وبعضها الآخر بقي مكتوم الحُب، فلم يكشف أصحابها عن أسمائهم. إذ يقضي العُرف، بحسب الكهل، "حارس الدرج"، أن يصطحب العشاق أثناء زيارتهم الدرج قفلاً مذيّلاً بأسمائهم وتاريخ الزيارة، وأن يطلقوا أمنية لحظة تعليقه في الشبك.

درج مار باسيليوس

درج مار نقولا ليس يتيماً. قديماً كانت الأدراج جزءاً من المشهد العمراني في بيروت ووسيلة التنقل المحببة لدى السكان. درج مار باسيليوس مشهور أيضاً، رغم أنه يعاني الوحشة، فهو بات غريباً عن المكان، كسنبلة في حقل ألغام. مبانٍ فخمة وعمارات مغالية بحداثتها تحيط به من كل زاوية. وقد تحوّلت أسطحها إلى أماكن لتجمع الساهرين على وقع الموسيقى الصاخبة.
يصل درج مار باسيليوس حي بيضون – الناصرة السني بشارع مستشفى رزق (سابقاً) الماروني في الأشرفية، وعلى مقربة من أسفل الدرج مخفر لقوى الأمن. بمجرد أن تقترب الكاميرا من المكان يصرخ العنصر الدركي محذراً فنمتثل للتحذير. تأمُّل الدرج يبعث في النفوس مشاعر مختلطة، تتأرجح بين الحزن على إهماله والابتهاج لصموده في بلدٍ يهدر ثرواته التراثية شيئاً فشيئاً.

درج الجامعة الأميركية

لم يقتصر وجود الأدراج على المناطق الداخلية فقط، بل اعتمدها السكان أيضاً طريقاً للوصول إلى شاطئ بيروت. ذاك البحر الذي كان في الستينات مقصد السيّاح الأول والمحطة الأهم للنقاهة والاسترخاء على ساحل المتوسط. ومن أبرز تلك الأدراج الدرج التراثي المعروف باسم "درج الجامعة الأميركية"، الذي يربط بين شارع بلس في الحمرا وشارع بيار دودج الموازي لكورنيش المنارة. تتحلّى تلك المنطقة بامتياز جغرافي، فموقعها الاستراتيجي بقربها من البحر من جهة ومن وسط البلد الاقتصادي من جهة أخرى، جعل منها معلماً أساسياً من معالم بيروت. قد يفوز درج الجامعة الأميركية بلقب "درج الحزّك مِزّك"، إذ يكاد لا يخلو طيلة الليل والنهار من زوار يروحون ويجيئون على سلماته ( درجاته) كرقاصي الساعات. يجدون في مساحته الحرّة متنفساً يعزلهم عن ضجيج السيارات وصانعيها.
في تلك المحلّة أيضاً يوجد درجٌ لا يعرفه سوى اللاهث خلف تراث بيروت، هو درج جلّ البحر. عتبات عريضة مطلية باللون الأزرق، لون البحر. يصل الدرج الذي يمتد على مسافة قصيرة، بين الجامعة الأميركية من الجهة الغربية ومنطقة عين المريسة.

درج السراسقة

الغريب عن بيروت والقاطن فيها يعرف بعضاً من تاريخ آل سرسق. تلك العائلة البيروتية العريقة والأرستقراطية التي ارتبط اسمها بأبرز الأحداث اللبنانية منذ القرن التاسع عشر، واشتهرت بالثراء. أصول العائلة بيزنطية، وأول فرد منها وصل إلى لبنان كان جبور سرسق في العام 1740. بنت العائلة قصوراً ومنازل فخمة في الأشرفية التي كانت حينها "تلّة المصايف" في بيروت، لا يزال بعضها قائماً إلى اليوم، وأهمها قصر سرسق الذي تحوّل متحفاً والذي يعود تشييده إلى العام 1912. دُعّمت المنازل بسور ضخم لحمايتها من الغزوات، ويُحكى أن الأبواب فيها كانت تُقفل عند الخامسة عصراً ويُمنع الدخول والخروج منها. أما الولوج إليها فكان يتم بواسطة درج سرسق. الأخير لا يزال يحافظ على بعض عتباته، بعدما أُزيلت أجزاء منه وتحولت طريقاً لمرور السيارات.
ينتهي درج السراسقة بباب أخضر أثري، على اليمين منه يظهر جزء من السور القديم. تُحيط بالدرج أشجار وشتول كثيفة وورود ولافتة كُتب عليها "أملاك خاصة ... يرجى عدم الإزعاج". على الدرج يُمكن لأي مخيلة أن تستحضر صوراً من ماضيه. لا يزال المكان بكل تفاصيله يعكس عبق التراث ويُحافظ على الإرث الذي خلّفه من قطنوه.

درج غلام

من هناك إلى درج غلام الذي يكتنز أيضاً تاريخ عائلة قطنت بيروت ولعبت دوراً في نهضتها. يُحكى أن عيلة غلام من العائلات التي تعود جذورها إلى القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية. يربط هذا الدرج منطقة الجميزة بمنطقة مستشفى القديس جاورجيوس. يتوزع ناسه المياومون كل في مكانه المعتاد. منهم من يعزف الموسيقى أو يقرأ كتاباً. في محيطه تقبع حانات صغيرة غالبية روادها هم من متسلقي الدرج، الذين يعتبرون المرور عليه طقساً أساسياً في يومياتهم.

درج مسعد

درج مسعد له رواده أيضاً، هؤلاء اعتصموا مراراً يوم انتشر خبر عن احتمال هدمه لصالح أحد المشاريع التجارية. يقع في منطقة مار مخايل وتختلف تسمياته بحسب السكان؛ فبعضهم يطلق عليه اسم درج سلوان، نسبة إلى أحد الاشخاص الذي سكن بقربه قديماً، وبعضهم الآخر يطلق عليه اسم درج مار مخايل، لكن التسمية الأكثر شيوعاً هي "درج مسعد"، التي أطلقت نسبة إلى "مسعد"، أحد الأشخاص النافذين الذي سكن في أحد الأبنية المحيطة به.
يعود بناء الدرج إلى بداية القرن العشرين. كان مرصوفاً بحجارة البحر قبل أن تزال في منتصف القرن الماضي وتُستبدل بطبقة من الاسمنت والباطون. يعتبر أيضاً منصة للأعمال الثقافية نظراً لعرض عتباته وطوله.

درج جعارة

في ذاكرة سكان بيروت عموماً الكثير من القصص مع الأدراج، فهي بالنسبة لهم شرايين العبور بعيداً من الزحمة والشوارع المكتظة. درج جعارة واحد من الأدراج الذائعة الصيت أيضاً، فهو المحطة الأكثر استقطاباً للسياح. أقيمت على عتباته بعض الحانات الصغيرة والمقاهي في الهواء الطلق، يرتاح فيها المارة ويستمتعون باكتشاف حركة المدينة التي لا تهدأ ليلاً ونهاراً.
يربط درج جعارة منطقة مار مخايل بمنطقة الجعيتاوي. غالبية المارة تستهويها جلسات السمر الطويلة هناك. في كل زاوية منه تجتمع "شلّة" صبية. معظمهم يلتقون يومياً في التوقيت نفسه في الزاوية نفسها، حتى كاد بعض الزوايا والأدراج يطوّب بأسمائهم، خصوصاً أن منهم من يهوى ترك دليل من "إتره" في المكان، فيكتب شعاراً على الحائط أو يخط رسماً عشوائياً. أعقاب السجائر تشهد أيضاً على عدد المارة. كذلك رسوم الغرافيتي الغريبة تعكس أذواق هؤلاء وتوقهم إلى مساحات عامة مشتركة مفتوحة على احتمالات الاتصال والتواصل بينهم وبين الجوار.
تلك الأدراج ليست مجرد علامات مميزة في مدينة تختنق بزحمتها، إنها حقاً وثيقة من حجر تحتضن قصصاً وروايات ارتبطت بالثقافة الشعبية للسكان، وتبدو المحافظة عليها واجبٌ حتمي، فبزوالها قد يخسر اللبنانيون متعة لا تعوّضها الطرقات الناعمة المفلوشة زفتاً.


MISS 3