ساندي الحايك

طرابلس "الثورة" و"الانقلاب": هدوء ما قبل العاصفة؟

18 كانون الأول 2019

02 : 00

ما قبل ثورة 17 تشرين الأول ليس كما بعدها. معادلة بسيطة باتت سارية في مختلف المناطق اللبنانية، إلا أن وقعها في طرابلس يبدو الأكثر شدّة. تسارع الأحداث في عاصمة الشمال قلب الموازين رأساً على عقب، ففي حين يتخوّف المتظاهرون الثائرون من مكائد يُحيكها مندسون ساعون إلى خرق الانتفاضة، تؤرق سيناريوات التأليف الحكومي مضاجع السياسيين.

جذبت طرابلس أنظار العالم كله منذ انطلاق الانتفاضة اللبنانية وحتى اليوم. قدّمت المدينة مشهداً استثنائياً كسَرَ الصورة النمطية التي طُبعت عنها لسنوات في أذهان الناس، خصوصاً لجهة وصمها بالإرهاب. فمحطات التلفزة العربية والأجنبية التي كانت تتقاتل سابقاً للحصول على معلومة أو صورة من ساحات الاقتتال، ها هي تتسابق لنشر أجمل صورة من ساحة عبد الحميد كرامي، حيث احتشد الآلاف مرددين "كلن يعني كلن". كسرت طرابلس عزلتها ونزعت الحواجز التي رُفعت بين مختلف مكوناتها من جهة، وبينها وبين مناطق لبنانية أخرى من جهة ثانية، حيث فتحت المدينة ذراعيها للوافدين من كل لبنان الذين احتشدوا معاً في ساحة النور مشكلين حالة لم تشهد عاصمة الشمال مثيلاً لها. بثّ الطرابلسيون الروح في تلك الساحة التي كانت لسنوات حكراً على النشاطات السياسية فحسب. نزعوا عنها الأعلام الحزبية وصور السياسيين، وخطوا على ألوان العلم اللبناني التي طُلي بها حائط مبنى الغندور وسط الساحة عبارة: "طرابلس مدينة السلام".

تنظيف المدينة من السياسيين

حملة "تنظيف" المدينة من صور سياسيين متهمين بالفساد والتآمر على طرابلس وأهلها شكّلت سابقة، وانتقلت عدواها من ساحة النور إلى أماكن أخرى في المدينة في حركة اعتراضية جريئة. نزع الطرابلسيون صور الرئيسين سعد الحريري ونجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي والنواب محمد كبارة وسمير الجسر وفيصل كرامي وغيرهم. انقلبت المدينة ضد قادة كانت قد كرّستهم في الانتخابات النيابية الأخيرة زعماء عبر صناديق الاقتراع. فميقاتي مثلاً حصد في انتخابات العام 2018 ما يُقارب الـ 21 ألف صوت تفضيلي، كذلك حصل كبارة على 9 آلاف صوت وكرامي على 7 آلاف. وبحسب مراقبين فإن "ما يحصل في المدينة اليوم ليس ابن ساعته، بل نتاج مسار طويل من الإهمال والحرمان بسبب سياسات حكومية مجحفة بحقها أدت إلى تراكم الأخطاء ومضاعفة معدلات الفقر والبطالة بين سكانها"، مشيرين إلى أن "نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة لم تتخطَ الـ40 في المئة، ما يعني أن غالبية الطرابلسيين غير راضين عن أداء الزعماء والمرشحين، وبالتالي كان على هؤلاء أن يقرأوا في ذلك دلالة على أن الانقلاب ضدهم بات على قاب قوسين أو أدنى، إذ لا يُمكن لشعب حرّ أن يرتضي العيش في الذل والمهانة. ورغم هذه الأرقام لم يُغيّر هؤلاء من سلوكياتهم السياسة ولا أدائهم في الحكم، واستمر النهب والفساد إلى حين بلغنا نقطة الصفر".

لا تكفي أصابع اليدين لتعداد الأسباب الكامنة وراء انتفاضة الطرابلسيين. صحيح أن مختلف المناطق اللبنانية رفعت شعارات مطلبية وهي تُعاني غياب الحدّ الأدنى من حقوق المواطنة، إلا أن لطرابلس حالة خاصة. فهي عاصمة الشمال والعاصمة الثانية للبنان والمدينة التي تضم أثرى أثرياء البلد، لكنها في الوقت نفسه أفقر مدينة على ساحل البحر المتوسط. إذ تخطت نسبة الذين يعيشون ضمن ظروف صعبة في المدينة الـ75 في المئة، وهي ترتفع إلى 90 في المئة في أحياء باب التبانة وحي التنك ومحلّة السويقة. فضلاً عن أن 23 في المئة من السكان يقبعون تحت خط الفقر، حيث يبلغ دخلهم اليومي أقل من دولارين بحسب البنك الدولي. هؤلاء راهنوا لسنوات على قادة المدينة وعلى وعودهم التي رددوها حتى بُحّت حناجرهم.

الانقلاب المُضاد

لا شكّ أن مشهد طرابلس ثائرة تحتضن كل مكوناتها أثار العجب والاستهجان في آن، فسارع البعض إلى الانقضاض عليه، وقد برز ذلك بوضوح من خلال عاملين أساسيين:

أولاً، وجود مجموعات اعتبرها مشاركون في الحراك أنها بعيدة عن أهداف الثورة وتسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى السيطرة على الشارع الطرابلسي والتحكم به. وأبرز وجوه تلك المجموعات ربيع الزين، الذي بات يُعرف بـ"الناشط"، والذي تم توقيفه بناءً على قرار النائبة العامة الإستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، بعد التحقيق معه في مفرزة بعبدا. وجاء قرار توقيفه عقب الإخبار الذي قُدِّم ضده من قِبل المحاميَين أشرف الموسوي ووسام المذبوح، "بجرم التعرض للقضاء والنيل من سمعته بقصد الإساءة والحض على مخالفة القوانين والتدخل الجرمي". وتم الافراج عنه في ما بعد.

سطع نجم ربيع (35 عاماً) بعد مرور قرابة ثلاثة أسابيع على انطلاق الانتفاضة الطرابلسية. احتضنه الشارع نظراً لكونه يملك حضوراً سابقاً بين الناس، فقد عمل في مجال تأمين جمهور للبرامج التلفزيونية، ثم تطور عمله بحيث أسس شركة تقوم على تقديم هذا النوع من الخدمات بالإضافة إلى تأمين مرافقين وحرّاس شخصيين. وبعد مدّة قام بافتتاح ناد رياضي في طرابلس لكنه ما لبث أن أقفل أبوابه بعد حين. وانطلاقاً من عمله تمكن ربيع من نسج شبكة علاقات واسعة، وتمتين معرفته برجالات كبيرة في الدولة. ونظراً إلى امتلاكه النفوذ والمال تمكن من استمالة العديد من الأشخاص الذين يتحركون بإمرته، فبات هو فعلياً المتحكم الأساسي بمصير الطرابلسيين ووقتهم وحياتهم، فيُقرر قطع الطريق هنا (لا سيما عند جسر البالما) وإحراق الإطارات المشتعلة هناك، من دون أي تنسيق مع جهات أخرى ناشطة في الحراك المدني من جهة، ومن دون أي محاولة لمنعه من القيام بذلك من قبل الأجهزة الأمنية من جهة أخرى، وهو ما يطرح علامات استفهام كثيرة. فعلى الرغم من أن الجيش اللبناني اتخذ قراراً بعدم السماح بقطع الطرق، لا يزال هذا القرار خارج حيّز التطبيق في طرابلس والبداوي والمنية، حيث تُقطع الطرق الأساسية بشكل شبه يومي ويقوم الجيش اللبناني بتحويل السير إلى مسارب فرعية وبتنظيم حركة المرور.

أوقف ربيع 3 مرات سابقاً قبل أن يتم توقيفه مجدداً. وعلى الأثر قطع شبان الطرق في طرابلس والمنية (مدينة والدته حيث تم اعتقاله أمس) للمطالبة بإطلاقه سراحه. فربيع استطاع تطويع عدد لا بأس به من الشبان من المنطقتين، منهم من برزت أسماؤهم في الثورة أيضاً، على رأسهم أحمد ناجي فوّال وهو أحد قادة "ثورة المحرومين" في طرابلس الذين بدأوا نشاطهم في العام 2018 اعتراضاً على الأوضاع المعيشية الصعبة، إلى جانب كل من مازن زيدان وأحمد عبيد وابراهيم مصطفى (مُلقب بـأبي سمير) ومازن وأحمد باكيش، الذين يشكلون اليوم مجموعة ربيع الزين.

وفوّال، بحسب ما تكشف مصادر لـ"نداء الوطن"، مقرّب من قائد محور باب التبانة زياد علوكي، الذي كان له دور بارز في حرب جبل محسن وباب التبانة. فوّال صاحب فكرة تنظيم تظاهرة للشباب الطرابلسي أمام السفارة الكندية للمطالبة بالهجرة، إذ تُفيد المعلومات أن حوالى 7 آلاف شاب طرابلسي تقدموا بطلبات هجرة إلى السفارات الأجنبية في بيروت. استُدعي إلى التحقيق أكثر من مرة لكن لم يثبت أي جرم بحقه. ويبقى السؤال: من يمنح هؤلاء الغطاء لأعمالهم رغم سلوكهم المشبوه؟ ومن المستفيد منهم؟ وهل من الممكن أن تكون نهايتهم شبيهة بنهاية ما كان يُعرف بـ"قادة المحاور؟".

ثانياً، استدراج الناس إلى معركة مع الجيش اللبناني، فقد جرت عدّة محاولات لتوريط أبناء المدينة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ففي 27 تشرين الأول عاشت طرابلس ليلة عصيبة، ويُمكن اعتبارها المواجهة الأخطر مع الجيش اللبناني باسم الثورة، إذ قام عدد من الملثمين (لا يزيد عددهم على 100 شخص) بالاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة في المدينة عبر تكسير واجهات محال تجارية ومصارف، والسعي إلى إحراق مركز "التيار الوطني الحرّ" والاعتداء على عناصر الجيش ورشقهم بالحجارة، ما اضطر الجيش للرد باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع.

الزعامات التقليدية: صمت وترقب

تُمثّل طرابلس الثقل السني في الشارع اللبناني، وبالتالي فإن انقلابها على الزعماء السنة، لا سيما الحريري وميقاتي، لا يُمكن أن يمرّ مرور الكرام. في بداية الانتفاضة برز اسم ميقاتي في الواجهة، بحسب مسؤول في "تيار العزم" رفض الكشف عن اسمه، إن ذلك "هو نتيجة لكون ميقاتي الزعيم السني الأقوى والأثرى في المدينة"، مضيفاً أن "ما أثير حول أزمة قروض الإسكان والشائعات الكثيرة التي رافقت الموضوع ساهمت أيضاً في تغذية النقمة ضده". حاول "العزم" استيعاب الغضب الطرابلسي، وفق المسؤول: "شارك عدد لا بأس به من المقربين من تيار العزم في التظاهرات المطلبية في ساحة النور. وهؤلاء ليسوا مقربين وحسب، بل من بينهم موظفون وعاملون وأقرباء أيدوا الانتفاضة نظراً لكونهم يحملون المطالب المعيشية عينها ويريدون العيش في ظل دولة فعلية". ويضيف: "لم نُمانع إطلاقاً، بل إن الرئيس ميقاتي أصر على أن يكون للجميع حريته في هذا الإطار. لكن بعد مرور الوقت توقف عدد منهم عن المشاركة من تلقاء أنفسهم، والسبب يتمثل بشعورهم أن الخطاب موجّه بالدرجة الأولى ضد الرئيس ميقاتي دون سواه".

الكلام نفسه يتردد على لسان مقربين من النائب فيصل كرامي. بالنسبة لهم أيضاً إن "الثورة بدأت تنحرف عن مسارها، وما الإشكالات التي افتعلت مع حرس منزل كرامي سوى دليل قاطع على ذلك". تكشف أوساط "بيت القلّة" أنه "رغم الخلاف السياسي، يتجه فيصل كرامي إلى تسمية الرئيس الحريري في الاستشارات النيابية غداً، وذلك انطلاقاً من الإصرار على تشكيل حكومة وحدة وطنية إنقاذية في أسرع وقت ممكن يكون هدفها الأساسي العمل على تأمين خلاص البلد من الانهيار الكلّي".

أما "تيار المستقبل" الذي تراجع حضوره بشدة على الساحة الطرابلسية فقد بدا جلياً أنه بات بحاجة إلى مراجعة نقدية لتجربته وطريقة تعامله مع المدينة أكثر من أي وقت مضى، فقد حاول مناصروه استغلال حركة الشارع لحظة إعلان الرئيس سعد الحريري استقالة حكومته عبر التجوّل بمواكب سيارة تحمل الأعلام الزرقاء دعماً لخياره في محاولة لإظهاره على أنه "مناصر الثورة". واليوم بعد رفض الشارع الطرابلسي، كالشارع اللبناني المنتفض عموماً، مختلف الأسماء التي تم طرحها لرئاسة الحكومة، يتم التداول باسم الرئيس الحريري، ويبدو أن مناصري التيار يحاولون بناء أرضية دفاعية عن وجوده في الحكم. فبحسب بعض المطلعين إنه "في هذه المرحلة الدقيقة من عمر البلد لا يُمكن لرئيس الحكومة إلا أن يكون قوياً وقادراً على التحمل والمواجهة، ومن الضروري أن يكون صاحب خبرة في التعامل مع الملفات ولديه علاقات دولية تُمكنه من لعب دور على خط الاتصالات الدولية لتأمين الدعم اللازم للبنان لتخطي أزماته الاقتصادية"، مضيفين أن "الرئيس الحريري وضع شروطاً واضحة لعودته إلى الرئاسة ومن يريد مصلحة الوطن لا بد أن يُضحي في سبيله".

حالة الإرباك المسيطرة على زعامات المدينة تُنذر بمدى دقة الوضع على الساحة الشمالية وربما خطورته، فخروج الناس الموجوعة من الشوارع من دون أي مكسب يُذكر، وفي ظل أوضاع اقتصادية متردية، دونه الكثير من العواقب، فهل تُراجع الطبقة الحاكمة حسابات حقولها انطلاقاً من حسابات بيادر المتظاهرين؟


MISS 3