نذهب جنوباً بداية لنستطلع أخبار الموسم الطالع. السيد وليد مشنتف، صاحب العلامة التجارية «بستان الزيتون» في عبرا، شرق صيدا، يبادر في حديث لـ»نداء الوطن» بالإشارة إلى أن ارتفاع أسعار زيت الزيتون إنما هو نتاج التكلفة العالية للمازوت والمحروقات والأسمدة عالمياً، كذلك غلاء المعيشة وبالتالي زيادة أجور اليد العاملة. ثم هناك دولرة الحركة الاقتصادية في لبنان التي انعكست على كلفة قطع الغيار والاستعانة بالفنّيين المختصين في صيانة الآلات الزراعية.
نسمع عن أن اختلاف النوعية بين منطقة وأخرى أو مصنع وآخر عادة ما يكون وراء اختلاف الأسعار. «يعود ذلك إلى توقيت القطاف والطريقة التي يتم بها كما إلى المعاملة الحقلية والاهتمام بتغذية الشجرة والأرض. لا يخفى على أحد أن ريّ الشجرة التكميلي في أيام الصيف لمنع الجفاف من النيل من أوراقها ومن حبّات الزيتون له تأثير أيضاً. ثم هناك طريقة العصر والتخزين الذي يجب أن يتمّ في خزانات «stainless steel» وفي أمكنة مبرّدة لا تتجاوز حرارتها 22 درجة مئوية»، بحسب مشنتف.
غش وتهريب
الموسم الحالي سيكون أفضل من الذي سبق (والذي شهد جفافاً وشحّاً في الكميات) إن من ناحية الكمية أو النوعية، كما يؤكّد مشنتف. ذلك أن معظم المناطق اللبنانية لم تتعرّض فيها حبّات الزيتون لإصابات وآفات، غير أن الكلفة ستكون عالية. ولم ينسَ أن يناشد الدولة في هذا السياق لتفعيل أجهزة الرقابة ومعاقبة المخالفين وضبط الحدود منعاً لعمليات التزوير والغش والتهريب. «مع الأسف الشديد، لا ضوابط على هذه العمليات ولا على مخالفات بعض التجار في توريد أو تهريب الزيت من خارج لبنان إلى مستودعاتهم بأسعار أدنى من الكلفة التي يتكبّدها المزارع اللبناني، وبيعه في الأسواق اللبنانية والعالمية على أنه زيت لبناني المصدر». هل من يستغرب هنا؟ نسأل عن السبل المتاحة لتخفيض كلفة الإنتاج وبالتالي الحدّ من ارتفاع أسعار الزيت من موسم لآخر، فيجيبنا مشنتف بأن المطلوب من الدولة والمؤسسات الدولية المانحة مساعدة المزارع اللبناني لتحقيق ذلك، إن من خلال توفير الأسمدة والأدوية الزراعية بأسعار الكلفة، أو إرشاده لتحسين النوعية والجودة ليتمكن من تصدير إنتاجه إلى أسواق خارجية جديدة تعود عليه بمردود مالي أفضل. المحاولات الجدية التي يقوم بها المعنيون للنهوض بإنتاج زيت الزيتون- والذي يشكّل مزارعوه أكبر نسبة من مجموع المزارعين في لبنان- هي موضع إشادة من العديد من أهل القطاع. غير أن الظروف الاقتصادية والمعيشية تطغى على الإمكانية الفعلية والعملية للقيام بأي عمل من شأنه المساهمة في تذليل العقبات بالنسبة لمزارعي الزيتون في ظلّ الظروف الراهنة.
سعر الزيت... نار
وبالإتجاه المعاكس نتحوّل. السيد يوسف فارس، صاحب العلامة التجارية ZEJD في منطقة بينو العكارية، يشير في اتصال مع «نداء الوطن» إلى أن أسباب ارتفاع سعر زيت الزيتون تعود إلى أن معظم المواد الأولية المستعملة في الأرض مستوردة من الخارج. ويضيف: «التراكتورات المستخدمة في حراثة الأرض ليست محلية الصنع، إضافة إلى المحروقات التي نسدّد ثمنها بالدولار. أجور اليد العاملة هي الوحيدة التي ندفعها بالليرة وقد ارتفعت هي الأخرى بشكل غير مسبوق».
القطاف يشكّل معضلة أساسية لغياب المكننة. وبحسب فارس، ما زال البعض يعتمدون على التقنيات القديمة في حين أن المزارع لا إمكانية لديه لاعتماد التكنولوجيا الحديثة. أما مسألة عصر الزيتون فستخلق تحدّياً جديداً هذا العام في ظلّ انقطاع التيار الكهربائي واعتماد المعاصر على المازوت، ما سيجعل تكلفة عصر التنكة الواحدة تتراوح بين 8 و10 دولارات.
المحصول قوي هذا الموسم، على عكس السنة الماضية، لكن الحبة ما زالت صغيرة لذا يفضّل انتظار أولى بوادر المطر إيذاناً ببدء القطاف. «سينطبع هذا الموسم بطابع النوعية الممتازة لكن بتكلفة عالية جداً، وهي ستتفاوت بحسب تفاوت أجر يد العامل الزراعي وكمية اليد العاملة المحلية والأجنبية المتوفرة في كل منطقة»، على حدّ تعبيره.
ماذا عن المعوقات؟ «كنا نصدّر كميات كبيرة إلى السعودية لكن هذه السوق أُغلقت، في حين أن السوق المحلية، وقوامها الأساس المطاعم والفنادق، تراجعت بشكل ملحوظ. فمن كان يشتري تنكتين وأكثر أصبح يكتفي بنصف تنكة»، كما يشرح فارس. وتكرّ سبحة المطالبات: تحرير السوق ما يؤدي حتماً إلى انخفاض الأسعار نتيجة حركة العرض والطلب؛ تحفيز المزارع على استخدام تقنيات زراعية وطرق عمل مختلفة في أرضه تخفيفاً للكميات المستوردة من الخارج ما يساهم في لجم التكاليف؛ تنظيم القطاع من قِبَل الدولة ووضع الخطط الصحيحة التي تؤمّن أفضل الحلول الممكنة للجميع إذ من غير المقبول إبقاء حال التنازع على أشدّه بين المزارع والمصنّع والمصدّر والمستهلك.
منتج Luxe
نبقى شمالاً، لكن في الكورة هذه المرة. هناك للسيد وسام مسلّم، صاحب شركة Msallem FoodTech، رأي مغاير. فإذ ذكّرنا بأن سعر الزيت يُحدَّد عالمياً كون تجارته أشبه بتجارة الذهب، اعتبر أن الأسعار غالباً ما تكون متقاربة بين الدول. إلا أن ما يميّز لبنان هو نوع شجر الزيتون تحديداً. «هو فينيقي الأصل ويختلف بنوعيته عما هو موجود في أوروبا وشمال أفريقيا. وبعكس الدول الأجنبية، لا يتم ريّ الشجر صيفاً. هذا إضافة إلى ارتفاع الأراضي المزروعة عن سطح البحر، ما يمنح الزيت طعماً ممتازاً ونكهة فاخرة، ما يتيح تشبيهه بالكروناكي أويل المصنوع في صقلية الإيطالية».
الحصول على زيت زيتون بكر ممتاز يحتّم انطلاق أولى خطوات العناية من الحقل من خلال مكافحة الآفات التي يمكن ان تلحق ضرراً بالشجر، مثل ذباب البحر المتوسط والذي يؤدي إلى ارتفاع نسبة الحموضة فيه. «نقوم بدورات توعية لمعظم المزارعين بالتعاون مع USAID لتمكينهم من طرق القطف وكيفية الاعتناء بالشجر والعصر والتخزين»، بحسب مسلّم.
نسمع مجدّداً أن الموسم الحالي سيكون مزدهراً... بانتظار المطر. لماذا؟ «لأن المطر يساهم في تغيير طعم الزيتون. فطعمه يكون ناشفاً، ولو كان بكراً، في حال عُصر قبل أن يتلقى الدفعات الأولى من ماء الشتاء»، يشرح مسلّم. هل تؤدي غزارة المحصول إلى تراجع الأسعار؟ «للأسف لا، لأن موسمي إسبانيا، تحديداً، وأوروبا، عامة، اللذين تُحدَّد على أساسهما الأسعار تراجعا بنسبة 50% ما سينعكس ارتفاعاً في أسعار الزيت عالمياً. ومن المتوقع أن يبلغ سعر الطن 4250 دولاراً، أي أن سعر الجملة للتنكة الواحدة سيتراوح بين 75 و80 دولاراً وقد يصل إلى 100 دولار بالمفرّق». رقم موجع وكأن بنا نتكلم عن أحد منتجات الـLuxe التي تكون عادة في متناول الميسورين حصراً. «كانت مبيعاتنا بمعظمها تتألف من غالونات الـ500 مل والليتر والـ3 ليتر. لكن اللبناني يتّجه مؤخّراً إلى غالون الـ250 مل. أما العائلة التي كانت تتموّن بـ5 إلى 6 تنكات فأصبحت تكتفي بتنكة واحدة لسنة كاملة. لقد تراجع السوق بنسبة لا تقلّ عن 60 الى 65%»، يتأسف مسلّم، لافتاً في نهاية حديثه إلى الخسارة الكبيرة التي لحقت بقطاع زيت الزيتون بعد حظر السعودية استيراد المنتجات اللبنانية، كونها كانت أكبر مستورد له. فالخسارة تقارب 300 مليون دولار سنوياً والحال إلى مزيد من المراوحة إلى حين حلحلة الأزمات الأخرى بين البلدين.
... في إجازة مسبقة
إلى مزيد من الأرقام. فبحسب رئيس تجمّع الصناعيين في البقاع، السيد نقولا أبو فيصل، تراجُع إنتاج زيت الزيتون واضح بشكل ملحوظ. إذ في حين كان لبنان ينتج حوالى 80 ألف طن سنوياً طيلة عشرين عاماً، أصبح إنتاجه لا يتخطى اليوم الـ20 ألف طن. أما الصادرات، وتبعاً لإحصاءات وزارتي الصناعة والاقتصاد، فبلغت حوالى 5 آلاف طن يقابلها استيراد 4 آلاف و500 طن. مع الإشارة إلى أن تصدير الزيت تراجع بنسبة 22% بسبب الأزمات المتتالية في حين أن لبنان يقوم باستيراد بعض أنواعه سعياً خلف عصر- أي عصر- للنفقات.
ويلفت أبو فيصل إلى أن قرار إخضاع تصدير زيت الزيتون إلى إجازة مسبقة على غرار البرغل والمغربية والصعتر وكافة أنواع المونة التي ترتقي إلى مستوى تحقيق أمن استراتيجي وغذائي في لبنان، حوّل عملية التصدير إلى مشكلة ضاغطة حُبلى بالصعوبات. وإذ لا ينكر الدور المشكور الذي تقوم به كل من وزارتي الزراعة والاقتصاد، غير أن القرار أتى على حساب صغار المزارعين الذين باتوا عاجزين عن تصدير منتجاتهم إلى الخارج، مطالباً بأن يكون تنظيمه أقل ضرراً وأخف وطأة على المزارع.
أبو فيصل الذي شدّد على أن لبنان خسر مؤخّراً أكثر من 300 مليون دولار من قيمة صادراته، أضاف: «لقد عانينا كثيراً لفتح أسواق زيت الزيتون في الخارج وإقناع المطاعم اللبنانية بشراء الزيت اللبناني لأنه الأغلى مقارنة مع الدول المجاورة ومنها اليونان، تركيا وتونس. ليس المطلوب إجازات مسبقة وإنما العمل على تخفيض كلفة الإنتاج، لأنها مرتفعة جداً مع اعتماد مبدأ laissez-passer. صحيح أن لبنان يملك مليون شجرة زيتون لكنها ليست تجارة مربحة، وأكثر من يعيش ذلك الواقع هو المزارع الذي يشقى لاستخراج الزيت».
المهندسة مريم عيد، رئيس مصلحة الصناعات الزراعية في الوزارة، تخبرنا ختاماً أن هدف الوزارة من قرار إخضاع تصدير الزيت إلى إجازات مسبقة هو القيام بإجراءات تنظيمية لضمانة سلامة الأمن الغذائي. وقد حاولت الوزارة من خلال هذا القرار التوفيق بين الأمن الغذائي، من جهة، والتقليل من التكلفة عبر إبقاء الإنتاج في الداخل والسماح بتصدير كميات معيّنة لتأمين العملة الصعبة، من جهة أخرى، كما أردفت.
نعم، الموسم على الأبواب. لكن مهلاً لأن الأنباء عن انقضاض «عصابات» قطع أشجار الزيتون عليها استباقياً تزيد الأمور تعقيداً. وهو سبب إضافي لنقول كان الله في عون المزارع والمصنّع والمستهلك على السواء.