خالد أبو شقرا

لو قاموا بأعمالهم كما يجب لتسنّى سماع أجراس إنذار مبكر

مدقّقو الحسابات... يفلتون من العقاب أيضاً!

11 تشرين الأول 2022

02 : 00

كان عملهم شكلياً

غني عن القول أن الرقابة على القطاع المصرفي اللبناني كانت شكلية؛ وإلا لما وقعنا في الانهيار ولما تبددت الودائع. فخلال السنوات الطويلة الماضية، لم تشتك شركات التدقيق المحاسبي في مصرف لبنان والمصارف التجارية علناً وبوضوح من أي خلل. وقد كانت تصادق عاماً بعد آخر على التقارير المالية، وذلك على الرغم من الاخطاء المحاسبية في «المركزي»، وتجاوز البنوك لأبسط قواعد العمل المصرفي السليم، ومنها: احترام نسبتي الملاءة والسيولة، وشروط التوظيف وتثقيل الديون وتجنب المخاطر ومواءمة آجال الالتزامات والاستثمارات... وغيرها الكثير من المتطلبات الدولية التي فضح الانهيار عدم إلتزام المصارف بها. فجوهر العمل الرقابي الذي تضطلع به جهات رسمية وخاصة على السواء، يتمثل في قياس الاداء، والتأكد من مطابقته مع المعايير العالمية، ولا سيما تلك المنصوص عليها في معايير بازل خصوصاً نسبة الملاءة. وهذا ما لم يكن يحصل.

بالاضافة إلى مفوض الحكومة، يستعين مصرف لبنان باثنتين من كبريات شركات التدقيق المحاسبي في العالم، وهما Deloitte «ديلويت أند توش» و Ernst & Young «ارنست أند يونغ». كما تخضع المصارف التجارية لرقابة لجنة الرقابة على المصارف من جهة، وتلزم بحسب القوانين المرعية الاجراء بتعيين شركتين عالميتين متخصصتين بالتدقيق المحاسبي توقعان على التقارير المعدة قبل إصدارها.



جعفر سلامة



مصالح مشتركة وعقود... وأموال

المشكلة الاولى تتمثل في أن التقارير المعدة من قبل شركات التدقيق لا تنشر بشكل كامل. بل عادة ما كانت المصارف تلجأ إلى نشر ما يلائمها من هذه التقارير وإخفاء الباقي. وبـ»استثناء التقارير الصادرة عن مفوضي المراقبة في أعوام ما بعد الازمة، وتحديداً في العام 2020، والتي أظهرت تحفظات بالشكل على عدم تطبيق المعايير، ولا سيما المعيار المحاسبي الدولي رقم 9 ( IFRS9)، فان المصارف كانت تنتقي ما يلائمها من هذه التقارير للنشر. ولم تكن الشركات تعارض أو تفضح الممارسات غير السليمة»، بحسب خبير المحاسبة المجاز الاستاذ جعفر سلامة، و»هذا قد يعود إلى المصالح المشتركة التي تربط المصارف مع هذه الشركات. وحرص الاخيرة على عدم التفريط بالعقود». ومن المعلوم في الأوساط المحاسبية أن «عمل الشركات الكبرى عادة ما يكون سهلاً وسريعاً، Quick Easy jobs. وغالباً ما يكلفون المهام لمبتدئين يعبئون قوائم التدقيق»، يتابع سلامة. وبالاضافة إلى أن المصادقة على هذه التقارير من جهات عالمية مرموقة هو مطلب محلي ودولي، فان هذه التقارير توجه إلى الجمعية العمومية التي تضم صغار المساهمين ليطلعوا على أوضاع البنك». إلا أن المشكلة الاكبر برأي سلامة تتمثل في «العلاقة بين البنوك والجهة الرقابية الأفعل التي تمثل «أم الصبي»، أي مصرف لبنان ممثلاً بلجنة الرقابة على المصارف. حيث لم تحدث، وإن وجدت، ارتكابات جوهرية في كل التقارير الصادرة عن لجنة الرقابة على المصارف على مدار الاعوام الماضية». وهذا يعود حكماً من وجهة نظره إلى «تضارب المصالح بين المصارف ومصرف لبنان. فالأخير لا يمكنه إصدار تقرير يتحفظ فيه على المخاطر في المصارف، وهذه المخاطر ناتجة بشكل أساسي عن توظيف المصرف أمواله في المركزي».




5 شركات تدقيق و61 مصرفاً

التدقيق في الميزانيات والتقارير المالية في 61 مصرفاً إضافة إلى مصرف لبنان بقيت خلال الاعوام الماضية محصورة بعدد قليل جداً من شركات التدقيق العالمية، والتي قد لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. وهي، E&Y ،Deloitte ،KPMG ،PricewaterhouseCoopers، و BDO SEMAAN GHOLAM & CO اللبنانية. ميزة هذه الشركات أنها على علاقة وطيدة مع مصرف لبنان، وقد كلف الحاكم الشركة الاخيرة التدقيق في حساباته الشخصية وخرجت التقارير سليمة ومن دون أي شوائب!!. وبرأي سلامة أن «من شأن كشف تقارير هذه الشركات عن المخاطر التي كانت موجودة، والتي تتعلق بتجميع توظيفات البنوك وامتصاص المركزي للنسبة الاكبر منها، يعرضها للاقصاء. وعليه، استمرت العلاقة قائمة بين الاطراف الثلاثة على قاعدة «لا مصلحة لأحد بان يزعل الآخر»، وتحولت المصارف وشركات التدقيق ومصرف لبنان، بالتالي، إلى فريق واحد. وأقل الايمان أن تكون تقارير هذه الشركات قد تضمنت مخاطر الاستثمار التي تقوم بها البنوك من خلال توظيف النسبة الاكبر من ودائعها في مصرف لبنان لفترات طويلة. وهذا التجاوز الذي تدينه أبسط المفاهيم والمعتقدات الشعبية التي تنادي بـ»عدم وضع كل البيض في سلة واحدة»، لم تأبه له أعرق شركات التدقيق الدولية. مع العلم أن مصرف لبنان لا ينتظر تقارير هذه الشركات لمعرفة تجاوزات المصارف ومشاكلها».




إنتقاء عيّنات... والوسخ الى تحت السجادة

يمكن لشركات التدقيق أن «تحيك» تقاريرها بشكل لا يورط المؤسسات التي تستفيد منها بمبالغ طائلة، ولا يدينها من الجهة الثانية ويؤثر على سمعتها. خصوصاً في ما يتعلق بأعمال التدقيق في مصرف لبنان. فتخرج التقارير وكأن كل شيء سليم، فيما يتم إخفاء الكثير من «الاوساخ» تحت «سجادة» التفاصيل التقنية والالتفاف على القوانين. ومن هذه الالتفافات على سبيل الذكر لا الحصر، «تسجيل «المركزي» فروقات القطع التي يخسرها كأصول في حساب بجانبي الميزانية»، بحسب سلامة. و»الكشف عن هذه المخالفة لا يتطلب تدقيقاً عظيماً، فهي منشورة في ميزانياته». فصحيح أن المعايير الدولية تسمح بامكانية استخدام بعض النفقات كأصول، لكن لمدة قصيرة جداً لا تتجاوز العامين، وبشرط تحقيقها المنفعة للمؤسسة. في حين أن «المركزي» استمر في تسجيل النفقات كموجودات على أمل إطفائها عندما يعود إلى تحقيق الارباح. وهذا يعد إخفاء للخسائر، ويتناقض مع المعايير الدولية.




د. محمد جزيني




التركيبة الإدارية للمصارف... عائلية

عاملان آخران لا يقلّان أهمية يتمثلان في «التركيبة الادارية للمصارف اللبنانية، وعدم تطبيقها معايير الحوكمة الرشيدة، يضافان إلى فشل المدققين الدوليين في تظهير المخالفات وفضحها. وبالتالي وضع حد لتجاوزات المصارف التجارية»، يقول الخبير المالي والاقتصادي د. محمد جزيني، «فطالما لا يوجد فرق في المصارف اللبنانية ما بين مجلس الادارة والمالكين، فان عمل شركات التدقيق لا يكون ذا جدوى كبيرة. لان النتائج ستوضع في تصرف الاشخاص المسؤولين عمداً وليس سهواً عن الاخطاء. وذلك على عكس ما يجري في المؤسسات المحوكمة والحديثة، حيث يهم المالكين تكليف شركات التدقيق للاطلاع على حسن إدارة مؤسساتهم من قبل مجالس الادارة المنتخبة أو المعينة».

هذه التركيبة «القبلية» الهجينة في بنية المؤسسات المصرفية التي تحصر المالكين، والمستثمرين الاساسيين، والمدراء العامين، وحتى السياسيين المفاوضين في عائلة واحدة واقارب ومعارف، هي أساس المشكلة. وعليه، «تنتفي فكرة التدقيق مع انتفاء قاعدة الفصل بين الملكية والادارة التي يبنى على أساسها التدقيق»، برأي جزيني، «فتصبح بذلك تقارير مدققي الحسابات لزوم الإلتزام بالمتطلبات الدولية، التي تفرض وجود تقرير سنوي يتيح تصنيف المصارف، وليس للكشف عن الاخطاء وتصحيح المسار».




لا تتحمل المسؤولية

شركات التدقيق المحاسبي التي يثير تكليفها «القشعريرة» في «جسد» المؤسسات، نظراً لغوصها في التفاصيل الدقيقة وكشف المستور، ما هي في النهاية إلا مؤسسات تدفع لها المصارف مبالغ مرقومة للتدقيق في ميزانياتها وإجراء نوع من التحليل للواقع المالي والاداري للمؤسسة. صحيح أن هناك معايير دولية تلتزم بها، إلا أن ولا واحدة منها تشذ قيد أنملة عن أصول التعامل في موضوع التدقيق لجهة الالتزام بالمعلومات المعطاة لها»، برأي جزيني، «اكثر من ذلك، فان التقارير التي تصدرها تكون على مسؤولية الشركات والمصارف، وهي بذلك لا تتحمل أي مسؤولية عن النتائج التي تحصل في حال إفلاس الشركات أو ملاحقتها لاخلالها بالشروط والمعايير والانهيارات المالية، ولو أن لها ذنباً كبيراً في ذلك». وهذا ما برز بشكل واضح خلال أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة الاميركية في العام 2008، حيث لم يؤد إنهيار المؤسسات المصرفية وشركات التأمين العملاقة من أمثال «ليمان براذرز» و»آي آي جي» تحميل أي شركة تدقيق المسؤولية، ولا حتى أي شركة تصنيف ائتماني من أمثال «ستاندرد آند بورز»، أو «فيتش»، أو «موديز» التي كانت تصنيفاتها قبل الانهيار AA.



من الناحية النظرية

بشكل عام تقوم أعمال التدقيق على انتقاء عينات من البيانات المالية الموقوفة في نهاية العام، التي تكون الادارة قد أعدتها على مسؤوليتها. وعليه فان عملية التدقيق لا تتم أولاً على كامل القيود. وبعد انجاز التدقيق يضع المدقق ما يعرف بـ»مشروع التقرير» ويعرضه للمناقشة مع الادارة ثانياً. وعلى الاخيرة توضيح المسائل العالقة أو التجاوزات للمدقق ثالثاً. وعلى ضوء قناعته يضع المراقب التقرير النهائي رابعاً. وذلك بعد أن تكون الادارة قد تعهدت بعدم اخفائها أي شي عنه، وان الحسابات لا تتضمن الغش والتزوير. ويرفق المدقق تقريره النهائي برسالة تتضمن الاخطاء، وعلى الادارة بدورها ان تبررها بكتاب رسمي، أو الاخذ بها وتصحيحها.




تغطي نفسها من الناحية القانونية

الخلاصة مما حدث في لبنان أن شركات التدقيق تغطي نفسها من الناحية القانونية بعدم تحملها المسؤولية، نظراً لبحثها في المعطيات التي توفرها المؤسسات، وتعطي في المقابل رأيها التقني بحسب المعايير الدولية. إلا أن هذا «لا يلغي أنها كانت على معرفة واضحة بحجم المشاكل والاخطار الكبيرة في بنية المؤسسات المصرفية وادارتها المالية، ومدى انكشافها على المصرف المركزي، وتركز المخاطر concentration risk اللذين كانا واضحين بشكل كبير»، بحسب محمد جزيني. و»هذا لا يمكن التهرب منه».


MISS 3