ستيفانو بونتوكورفو

آخر ممثّل لحلف "الناتو" في كابول يروي تجربته: الأخطاء الغربية سهّلت انتصار "طالبان" في أفغانستان

12 تشرين الأول 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

طائرة تُقلع من مطار حامد كرزاي الدولي في كابول | 29 آب 2021

تركنا وراءنا أقل من 7 آلاف جندي أميركي وبريطاني بقليل، فبقيوا تحت القيادة الوطنية ثم انسحبوا بعد تدمير جميع المواد الحساسة في مطار كابول، غداة عمليات الإجلاء الفوضوية للموظفين الأفغان. غادرنا البلد وتركناه بوضعٍ سيئ، فسيطرت عليه حركة "طالبان" التي أسقطناها من السلطة خلال بضعة أسابيع، قبل عشرين سنة. لقد تركنا بلداً وثق بنا وحكمنا بذلك على الأفغان مجدداً بمستقبل مختلف جداً عن المصير الذي ألمحنا إليه في بداية هذه المغامرة.

قد يبدو انسحاب الولايات المتحدة وحلف الناتو من أفغانستان مجرّد هزيمة عابرة. لكنه يُضاف فعلياً إلى سلسلة من الإخفاقات الأميركية الأخرى، بدءاً من لبنان وصولاً إلى الربيع العربي، والعراق، والصومال، وسوريا. انتهت هذه المغامرات كلها بطريقة سلبية، ثم زاد الوضع الذي تركه الأميركيون وراءهم سوءاً في المراحل اللاحقة. نحن نواجه اليوم المشاكل الأمنية التي كانت قائمة منذ عشرين سنة.

بدأ الانهيار قبل الأحداث المأسوية في تموز وآب 2021 بفترة طويلة. تفككت الدولة الأفغانية ونسيجها الاقتصادي والاجتماعي تدريجاً ورزحت تحت ثقل الفساد المستفحل، والمؤسسات الديمقراطية الضعيفة، والأخطاء السياسية التي ارتكبها الغرب وسمح للآخرين بارتكابها.

كان إصرار الرؤساء الأميركيين والقادة الأوروبيين المتعاقبين في آخر عشرين سنة على تنفيذ انسحاب مبكر من أفغانستان كفيلاً بإقناع حركة "طالبان" ومناصريها، وحتى الشعب الأفغاني كله، بأن الغرب لا يتمتع برغبــة كافية لإنهاء مهامه.

وكان التوقيع على اتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة و"طالبان"، في 29 شباط 2020، لسحب القوات الأجنبية من البلد، بداية نهاية جمهورية أفغانستان الإسلامية.

بدأت الولايات المتحدة هذه المفاوضات من موقع ضعف لأنها كانت تبحث عن أي طريقة لمغادرة البلد بكل أمان خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.

كان أثر ذلك الاتفاق سلبياً جداً، فقد حطّم ميزان القوى القائم في أفغانستان بالكامل وجعله يرجح لصالح "طالبان" التي لم تُطالَب إلا بضمان سلامة القوات الأميركية والحليفة وتقديم تطمينات ظاهرية بمكافحة الإرهاب.

كذلك، أقنع ذلك الاتفاق "طالبان" والشعب الأفغاني بأن الولايات المتحدة والغرب لا يتمتعان بقوة الإرادة أو الصبر الاستراتيجي لإنهاء المهمة التي بدأت بغزو البلد في العام 2001 وتنفيذ خطة إرساء السلام في أفغانستان.

في هذه الظروف، أدى الإعلان عن قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بتنفيذ الانسحاب الأميركي، في 14 نيسان 2021، إلى نسف محادثات الدوحة بين "طالبان" والحكومة الأفغانية، فاستمر هذا الحوار في المرحلة اللاحقة لفترة قصيرة قبل تعليقه نهائياً.

بين الإعلان الأولي عن الانسحاب الأميركي في شباط 2020 وتأكيد الإدارة الأميركية الجديدة على تاريخ الانسحاب في نيسان 2021، تغيرت المشاعر التي يحملها الشعب الأفغاني تجاه الولايات المتحدة وحلف الناتو. بدل وضع هذا المعسكر الغربي بمصاف الصديق وفاعل الخير، بات يُعتبر طرفاً غير جدير بالثقة أو حتى خائناً.

بحلول تموز 2021، تحركت "طالبان" بكل ثقة وأطلقت هجومها. كان إيقاع غزوها للبلد مبهراً. في 25 حزيران، كانت الحركة قد سيطرت على 99 مقاطعة من أصل 412. وبحلول 14 تموز، فرضت سيطرتها على 218 مقاطعة. أوقف مقاتلو "طالبان" مسارهم في ضواحي كابول طوال يومَين، بانتظار أن توضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق الناشئ وتنفيذاً لتعليمات "مجلس شورى كويتا" (مجلس القيادة العليا في "طالبان") الذي أراد أن يستولي قادة الحركة من قندهار وجنوب البلاد على كابول.

مع ذلك، لم يتوقع المسؤولون الغربيون أن تهرب الحكومة الأفغانية أو أن تسقط كابول بهذه السرعة. صدرت مذكرة مُعدّة "للاستخدام الرسمي فقط" بعد اجتماع تنسيقي لمجلس الأمن القومي الأميركي في 14 آب، ثم جرى تسريبها إلى الصحافة، وهي تعطي لمحة سريعة عن عدم جهوزية واشنطن لعمليات الإجلاء.

حين دخلت قوات "طالبان" إلى كابول واقتربت من القصر الرئاسي في 15 آب، هرب الرئيس أشرف غني من العاصمة فوراً عبر مروحية متّجهة إلى أوزبكستان. أدى خبر هرب الرئيس، الذي انتشر بسرعة فائقة، إلى تخلي العدد المتبقي من الحرس الأفغاني عن مواقعه وقام موظفو المطار المدني بالمثل، فأصبح المكان خالياً من أي حراسة بحلول فترة بعد الظهر من ذلك اليوم. وصل ثمانية عناصر من "طالبان" إلى هناك بعد بضع ساعات، من باب الفضول على ما يبدو، لكنهم احتلوا المكان وشربوا الشاي والمشروبات الغازية في قاعة كبار الشخصيات في الطابق الأرضي.

عشية يوم 16 آب، وفي ظل غياب أي ضمانات أميركية للحفاظ على أمن العاصمة، قام الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، بالتنسيق مع رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية، عبدالله عبدالله، بدعوة "طالبان" إلى دخول كابول "لحماية الشعب ومنع البلد والمدينة من الغرق في الفوضى".

كانت عمليات الإجلاء اللاحقة سريالية بمعنى الكلمة. اصطدمت الخطط التي وضعتها مختلف الدول في مرحلة متأخرة، بدءاً من الولايات المتحدة، بواقع لم يتصوره أحد، فقد اختفت الجمهورية بحلول منتصف آب ونشأت ظروف لم يكن أحد مستعد لمواجهتها في المرحلة اللاحقة.

كما يحصل في معظم الحالات، اتضح التناقض بين واقعية أجهزة الاستخبارات والجيش من جهة والمشهد الذي يصوّره السياسيون من جهة أخرى. في 8 تموز 2021، أعلن بايدن أن الحكومة الأفغانية لن تسقط على الأرجح، مع أن جيش التحالف لم يُخْفِ هشاشة الدولة الأفغانية وعدم جهوزية القوات المسلحة للقتال. حصل القادة الأميركيون وأعضاء آخرون من التحالف على هذه المعلومات طبعاً، لكنهم ردّوا بطرقٍ معاكسة، فأصرّت واشنطن على الانسحاب ودعت جهات أخرى إلى مراجعة شروط العملية وتاريخها.

في غضون ذلك، تجمّعت الحشود في محيط المطار ولم يعد ضبطها ممكناً بعد خروج الوضع عن السيطرة. اختفى العدد الضئيل المتبقي من الحرس الحكومي عن الأنظار، مع أن "طالبان" لم تكن قد استهدفت الجزء العسكري من المطار بعد. بعد وصول عناصرها، لم تصبح الحشود منظّمة من تلقاء نفسها بل إن الطريقة الوحيدة التي تجيدها "طالبان" لمحاصرة الناس تقضي بإطلاق جولات متلاحقة من الرصاص في الهواء.

زاد الوضع سوءاً لأننا لم نكن نعرف ما يحصل في الخارج أو التطورات المتعلقة بتوقيت العمليات الذي كان يتوقف بشكلٍ أساسي على قرارات واشنطن. في كابول، كان الأميركيون يتعاملون مع ضخامة المشكلة الناشئة ويجدون صعوبة في إعادة تنظيم عمليات الإجلاء ومهام القنصلية في المطار لدرجة أن يعجزوا عن التحرك في المدينة.

في الساعة السادسة و21 دقيقة من بعد ظهر يوم الجمعة، في 27 آب 2021، انتهت مغامرة الناتو في أفغانستان رسمياً. في تلك اللحظة، عبرت الطائرة الإيطالية "سي- 130" التي كنتُ على متنها، بصفتي آخر ممثل للحلف يغادر البلد، الحدود بين أفغانستان وباكستان. للمرة الأولى منذ عشرين سنة، خَلَت أفغانستان من أي وجود لحلف الناتو.

إنتشرت طائرات متعددة الجنسيات في أنحاء المنطقة وتوزعت بين الخليج وباكستان والبلدان المجاورة، ثم انتظرت الركاب الذين عجزوا عن عبور مداخل المطار. قام الجنود بكل ما يستطيعون فعله، لكن أقلعت الطائرات وهي خالية أو شبه فارغة، بما في ذلك الطائرات الأميركية. سرعان ما تحولت القواعد الأميركية في الخليج إلى مخيمات للاجئين، فنشأت بأقصى سرعة واستقرّ فيها من تم إجلاؤهم طوال أسابيع، داخل منشآت مؤقتة تفوق فيها الحرارة عتبة 37 درجة مئوية.

أنا شخصياً قمتُ بأبسط المهام ظاهرياً. انطلاقاً من الحاجات التي فرضتها تلك الظروف، نظّمتُ اجتماعاً تنسيقياً ودعوتُ إليه السفراء ورؤساء الوحدات العسكرية من جميع البلدان المعنية، في الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم 15 آب. حضر جميع المدعوين، بما في ذلك الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ومختلف الوفود الحاضرة في المطار.

بعد تلك المرحلة، استمر التفاوض بين الأميركيين والبريطانيين وسواهم. أمضيتُ أيامي، ومعظم الليالي أيضاً، وأنا أتواصل مع زملائي وممثلين عسكريين عن مختلف الوحدات لتبديد أي سوء تفاهم قد يجازف بإعاقة التعاون الذي كنتُ أحاول إقامته وكنا لنجازف من دونه بالتخلي عن معظم زملائنا الأفغان. تحسّن الوضع مع مرور الساعات وراح عدد المغادرين يرتفع، وبدأنا بعد فترة قصيرة نلاحظ نتائج هذه الخطة، فامتلأت الطائرات بالناس وأقلعت أخيراً.

ستبقى صور آلاف الأفغان اليائسين الذين احتشدوا حول مداخل المطار وحاولوا ركوب الطائرات سعياً منهم لعيش حياة مختلفة عالقة في ذاكرتنا الجماعية لوقتٍ طويل.

هل كان يُفترض أن تنتهي تجربة أفغانستان بهذا الشكل؟ ليس بالضرورة. تشكّل نهاية التدخل هناك المرحلة الأخيرة من سلسلة أخطاء غربية أخرى انتهت بالطريقة نفسها تقريباً، بدءاً من فيتنام، وتحمل هذه المغامرات الشائبة كلها أنماطاً مشابهة دوماً.


MISS 3