د. عماد شيّا

أساتذة الجامعة اللبنانية من الإفقار والتجويع إلى الإخضاع والتركيع؟! أهو الخوف من مكنونات عقل الأستاذ الجامعي؟!

19 تشرين الأول 2022

02 : 00

قال أرسطو قبل قرون: «يعمد الطاغية إلى إفقار مواطنيه حتى ينشغلوا بالبحث عن قوت يومهم، ومن ثم لا يملكون وقتاً كافياً للثورة عليه». هذا القول يعبّر الى حد بعيد عن حال أساتذة الجامعة اللبنانية في هذه الأيام وعما يشعرون به.

بالطبع، حال الإفقار والتجويع في لبنان لم يعد محصوراً بالجامعة اللبنانية واساتذتها أو المنتمين إلى القطاع العام فقط، انما تمددت أحزمة البؤس إلى فئات وشرائح واسعة، بحيث باتت تلامس نسبتها بحسب دراسة صدرت اخيراً في AUB، اكثر من 80% من اللبنانيين الذين بات يطرق أبوابهم اليوم شبح البؤس والعوز بقوة. ويظهر ذلك من خلال عجزهم عن تأمين سلتهم الغذائية الضرورية وبدل فاتورتهم الصحية، عدا عن عدم قدرتهم على تلبية حاجاتهم الأساسية الأخرى كسداد أقساط تعليم الأبناء وتأمين بدل خدمات الماء والكهرباء والسكن والتنقل والمحروقات...

مع كل ذلك، حاولنا إقناع أنفسنا وقلنا «ماشي الحال» ظلم بالسويّة عدل بالرعيّة. لكن في الحقيقة تبيّن بأن الظلم الواقع على الجامعة اللبنانية واساتذتها هو أشدّ وأدهى... وقد بان ذلك من خلال التعامل المذل والمهين والممنهج معهم، حتى بدا الأمر وكأن هناك حقداً دفيناً ومكبوتاً من قبل أركان السلطة على الجامعة اللبنانية وأساتذتها.

بدأت مأساة الجامعة اللبنانية قبل سنوات، بتجويف السلطة السياسية صلاحيات مجلس الجامعة ومصادرة قرار تفريغ الاساتذة وتعيين عمداء الكليات، وإلحاقها بالحكومة التي أخضعتها لمحاصصاتها الطائفية والفئوية. ومع الوقت أصبح الاستاذ الجامعي يخسر تدريجياً خصوصيته ومكانته الأكاديمية والاجتماعية، وتصبح من الشروط الأساسية لتفرغه وترفعه الأكاديمي وترقيه الإداري ليس كفاءته العلمية وصفاته الشخصية، انما انتماؤه السياسي ودرجة ولائه لمرجعيته السياسية.

وبعد هيمنتها على قرار الجامعة الأكاديمي والاداري، استكملت السلطة حلقة هيمنتها على هيئات الاساتذة النقابية التمثيلية والتنفيذية، وذلك بواسطة مكاتب الاحزاب التربوية وأذرعها داخل الجامعة، فصارت الجامعة بمركزيتها وكلياتها وفروعها مساحة مستباحة لخدمة مصالح الطبقة السياسية ومحاصصاتها الطائفية، وباتت صورة الإستاذ الجامعي للأسف أقرب إلى صورة الموظف الملحق والتابع منها الى صورة الشخصية القدوة في المجتمع والاكاديمي الباحث الناصح والمرشد.

في خضم هذا الواقع الجامعي المرير، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية والانهيار المتسارع للعملة الوطنية، بدأت تتكشف نتائج ومفاعيل الهيمنة على الجامعة اللبنانية وأسباب استسهال السلطة التعامل المهين معها ومع اساتذتها الذين يبدون اليوم الحلقة الأضعف والأقل مناعة وقوة، والأكثر هواناً وتشتتاً، وقبولاً ومساومة على مكانتهم وحقوقهم ومكتسباتهم.

تدريجياً، وعلى الأغلب عن قصد، صارت تخلو أدبيات ومداولات وقرارات مجلسي النواب والحكومة من ذكر أيّ خصوصيّة أو تمييز للإستاذ الجامعي، أو تحتوي حتى على أي «جست» يعبّر أو يوحي بتقدير قيمته ومكانته واحترام مؤهلاته، وذلك خلافاً لما هو متعارف عليه ومعمول به في الدول والمجتمعات المحترمة... وفوق ذلك ترجمت السلطات حقدها بتجريد الأستاذ الجامعي مما تمتع به أسوة بالجسم القضائي من حيث الصفة المعنوية والتقديمات المادية لا سيما على صعيد سلم الرواتب وصناديق التعاضد، حتى أن الاستاذ الجامعي تمّ إستثناؤه ولفترة غير قليلة، من سلة الحوافز والتقديمات الاجتماعية التي تلقاها غيره في القطاع العام...

فبعد تجريده من معنوياته وتشويه صورته الاكاديمية والتضييق عليه مادياً، يبدو أن السلطة مع نهاية العام الجامعي المنصرم وبداية العام الجديد، تتجه معتمدة على ادارة جامعية مطواعة وهيئات نقابية تابعة، إلى مرحلة الاخضاع الكامل للاساتذة وتركيعهم، وذلك عبر إجبار هذه الهيئات بأي طريقة، على وقف الاضراب المفتوح، رغم تثبيته وتأكيده من قبل الهيئة العامة مطلع تشرين الجاري، وبالجزرة، الإغراء المادي (توقيت ضخ المبالغ المستحقة والمترتبة، ومضاعفة الراتب أسوة بباقي مؤسسات القطاع العام، مترافقاً مع ضغوطات كبيرة لانهاء السنة الدراسية المنصرمة والبدء بالسنة الجامعية الجديدة)، وبالتلويح باستعمال العصا الغليظة والنبرة العالية غير المعهودة في مخاطبة الاساتذة، متجاهلين المرارة التي عبرت عنها الهيئة العامة وعن غضبها واصرارها على متابعة الإضراب: ففي حال كان الأستاذ «لا يرغب» بمتابعة التعليم لأي داع يُطلب منه الانتحار الذاتي (طلب الغاء، استيداع او تجميد عقده مع الجامعة...)، والأجواء المنقولة عن الاجتماعات المتتالية في الإدارة المركزية عبر ممثلي الاساتذة، والمؤكدة من قبل أكثر من ممثل للاساتذة في تلك الاجتماعات، تتحدث عن مسار نهج استبدادي تهديدي وتخويفي غير مسبوق، إذ في حال رفض الاستاذ الانصياع، تعليق الاضراب والالتحاق وعدم الانتحار بنفسه أي طلب تجميد أو الغاء عقده «ستطلع براسو»، أي ما يعني بأن الإدارة ستقوم بنحره أي شطبه من لائحة أساتذة الجامعة.

بالحقيقة، هذا المناخ الذي يظلّل الجامعة وهذا النهج الذي تَعد الإدارة الجامعية باعتماده لا يبشر بالخير، لا سيما في وقت يعاني الاساتذة وعائلاتهم الأمرّين في يومياتهم لتأمين حبة الدواء وسلة الغذاء وتنكة المحروقات للتنقل أو للتدفئة على أبواب الشتاء، عدا ما نعرفه من خلال تواصلنا على صفحات الاساتذة عن مآسٍ حقيقية لزملاء يعانون هم او زوجاتهم واولادهم من أمراض وبحاجة إلى جراحة وعمليات وعناية دائمة.

لن أذهب بعيداً بالحديث عن معاناة الاساتذة، فأنا كاستاذ في الجامعة تجاوز الستين من عمره، وأصبح بحاجة إلى أدوية دائمة وفحوصات دورية بعد اجراء جراحة لمنع تفاقم مرض خطير، توقّف صندوق التعاضد عن تغطيتها منذ بداية الازمة، وأصبحت غير قادر على إجراء الفحوصات الدورية اللازمة لكلفتها الباهظة، واضطراري للوقوف في طوابير المراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة للحصول على بديل عن الأدوية الاساسية، وأحياناً كثيرة أعجز عن الحصول على هذا البديل، وأمام استفحال المعاناة الصحية المديدة في الظهر والقدمين للزوجة، المعلمة في وزارة التربية بعدما اضطررنا مكرهين للاستغناء عن العاملة الأجنبية قبل أكثر من عامين، والرهبة من المغامرة بزيارة الطبيب بسبب بدلات الأطباء المرتفعة والفحوصات المخبرية والصور الشعاعية لكلفتها الخيالية، مقارنة برواتبنا التي أصبحت باهتة وبخسة جداً، وأمام دموع الاولاد، فلذات الأكباد، الخائفين على ضياع مستقبلهم وإحباطهم ومعاناتهم النفسية لشعورهم بعدم قدرة الأهل على مساعدتهم في استكمال تحصيلهم العلمي، نتيجة دولرة وارتفاع الاقساط في الجامعات الخاصة المرموقة وأوضاع الجامعة اللبنانية الكارثية، وأمام المعاناة والمرارات اليومية، والتقتير القسري في المأكل والمشرب والكهرباء والماء وصعوبة تأمين الحطب والمحروقات على أبواب فصل الشتاء، كما حال مصير كثيرين من الزملاء وعائلاتهم، أمام كل ذلك أتساءل: هل يُعقل مثل هذا التعامل وهذا التخاطب من قبل من هم بالأساس زملاء قبل أن يصبحوا رؤساء عمداء ومدراء، ولن يطول بهم الوقت حتى يعودوا إلى صفوفهم؟!

نعم، أمام هذا الواقع الكارثي، نتوجه للمسؤولين في السلطة وللزملاء المعنيين في الجامعة، لنقول: الاساتذة المحتجون يصرخون وجعاً ومرارة وليس أبداً رغبة أو هواية، فهم لا يطلبون المستحيل، وكل ما يطالبون به احترامهم المعنوي وتفهم عمق المشكلة المادية الاجتماعية التي يعانون منها، وتمكينهم ولو بالحد الأدنى، لمواجهة حال البؤس المستفحل والمستشري.

وبكل مودة واحترام نناشد الزملاء المسؤولين بكافة مستوياتهم ومسمياتهم وقبل فوات الاوان: إياكم واستخدام الوسائل البائدة والرسائل المشفرة في التخاطب مع زملائكم. المطلوب في هذه الظروف الاستثنائية غير المسبوقة، التواضع والتحاور المباشر، وتبادل الأفكار والهواجس واستنباط الحلول الممكنة بروح واخلاق جامعية راقية وعالية. «فلقد أُكلتم يوم أُكل الثور الأبيض». اليوم انتم في سدة المسؤولية لكن «لو دامت لغيركم لما وصلت اليكم»، فالظلم الواقع بالسوية، والواجب والمنطق يفرضان المواجهة معاً وليس بوجه بعضنا البعض. فمن عمل على هدم مقومات الجامعة بشكل منهجي وأمعن بتدمير صورة الاستاذ الجامعي وإفقاره، ويتأهب الآن لاخضاعه وتركيعه، لا يستهدف شخصاً او مجموعة بعينها، أو أن استهدافه لن يطالكم آجلاً أم عاجلاً. إن ما يتحفنا به المسؤولون عن أن ما يقومون به من جهد، ويعلنون عنه من إجراءات هو بدافع الحرص على مصلحة الطلاب والجامعة، ونحن نعلم انهم بالتأكيد في قرارة أنفسهم، يدركون بأن مصلحة الجامعة اللبنانية وطلابها لا تستقيم بمعزل عن تفهم معاناة الأساتذة وحفظ كرامتهم وحقوقهم، ومن دون المبادرة إلى التحاور المباشر معهم والتبصر معاً لإيجاد الحلول الممكنة، وليس أبداً برسائل التهديد والتخويف إنفاذاً لإيعازات تقضي بتسيير الجامعة اللبنانية كيفما كان، استمراراً لسلوك ونهج جائر ومتماد بحقها، قد يكون سببه الخشية من مكنونات عقل الاستاذ الجامعي الزاخر بالإمكانيات والعصيّ على الإرتهان، أو الغيرة الحاقدة التي تستوطن الجهل المستبد بالسلطة أو الإثنين معاً.

(*) استاذ في الإعلام والتاريخ العام


MISS 3