عيسى مخلوف

فريدا كَحْلُو في ثياب الجسد المحطَّم

22 تشرين الأول 2022

02 : 01

كانت في الثامنة عشرة من العمر حين اصطدمت الحافلة التي تقلّها بقطار مسرع، فأصيبت بجروح خطيرة وظلّت في المستشفى لأشهر طويلة خضعت خلالها لزهاء ثلاثين عمليّة جراحيّة. هذا الحادث المروّع حطّم جسدها وغيَّر حياتها، ودفعها في اتّجاه الرسم بعدما كانت تستعدّ للتخصّص في مجال الطبّ. من هنا تبدأ حياة الفنّانة التشكيليّة المكسيكيّة فريدا كحلو، من هذه المأساة التي طبعت حياتها وفنّها حتى اللحظة الأخيرة، وجعلتها علامة فارقة في تاريخ الفنّ في القرن العشرين من خلال أعمالها المؤثرة التي تمثّل في الغالب تجربتها المأسويّة وعَبرها حياةَ الذين يولدون على صليب مرفوع منذ البداية.

​كانت فريدا كحلو ترسم وهي ممدّدة على ظهرها لحماية عمودها الفقري الهشّ، وأمامها، في سقف الغرفة، مرآة كبيرة ترى فيها وجهها وصُرَّة آلامها، وكذلك حيويّتها وقدرتها على الابتكار، وقوّة الفنّ بقدرته على استخلاص الجمال من قلب القَسوة. لذلك كان هذا الوجه رسالتَها إلى العالم، ترسمه وتعيد رسمه إلى ما لا نهاية. وحين بدأت تعود إلى حياة طبيعيّة نسبيّاً، عبّرت عن التزامها السياسي وعن موقفها من القضايا الاجتماعيّة، واستقبلت في منزلها، لفترة ما، ليون تروتسكي الهارب من ستالين الذي أرسل إليه لاحقاً من يغتاله في المكسيك. من جانب آخر، استقبلت، برفقة زوجها فنّان الجداريّات المكسيكي دييغو ريفيرا، الكثير من الكتّاب والفنّانين الآتين من أوروبا إبّان الحرب العالميّة الثانية، ومنهم عرّاب المدرسة السورياليّة أندريه بروتون الذي دعاها إلى عرض أعمالها في باريس بعد أن كانت عرضتها في نيويورك. رحلتها إلى باريس عرّفتها إلى عدد كبير من الفنّانين الروّاد ومنهم بيكاسو وكاندنسكي وخوان ميرو.

​المعرض الذي يقام حاليّاً في متحف "غالييرا" للأزياء في باريس، تحت عنوان "ما وراء المظاهر"، يتمحور حول المحطّات الأساسيّة في حياة هذه الفنّانة وفي مسارها الفنّي، كما يسلّط الضوء على الملابس التي كانت تختارها، بصفتها جزءاً من هويّتها الشخصيّة التي تعكس تجذّرها في تقاليد الفنّ المكسيكي القديم وتساعدها على التعامل مع إعاقتها. إنّها المرّة الأولى التي تُعرَض فيها هنا هذه الملابس، وفي عرضها شيء من الغرابة. لأنّ هذه الملابس الفضفاضة، والأكسسوارات المرافقة لها، والشالات الملوّنة كأقواس قُزح، كانت تُظهر الجمال والأناقة، وتخفي في الوقت نفسه عيوب الجسد المُصاب بألف سهم. كأنّ الملابس والمجوهرات التي يظهر قسم منها في أعمال الفنّانة، أقنعة، أو وجوه أخرى تواجه بها مأساة وجودها، وتواجهها أيضاً بالعطور التي كانت تتعطّر بها كأنّها رُقية لإبعاد الشرّ. هذه العلاقة مع مظهرها الخارجي تثير الإعجاب. يُروى عنها أنّها "في كلّ مرّة تضطرّ فيها إلى دخول غرفة العمليّات، كانت أختها كريستينا تقوم بتسريح شعرها ووضع البودرة على وجهها".

إلى جانب هذه الملابس التي جيء بها من متحفها في المكسيك، هناك مراسلات، ومجوهرات ما قبل كولومبيّة ومستحضرات تجميل، وأدوية، وأطراف صناعيّة لازمت الفنّانة في محنتها الطويلة، وقد حوّلتها قطعاً فنّيّة بعد أن رسمت عليها ولوّنتها، وهي تمثّل مفردات حياتها اليوميّة منذ الحادث الذي تعرّضت له حتى وفاتها. المعرض عودة إلى فنّانة لم يَخبُ بريقها أبداً، لا سيّما أنها كانت مصدر وحي وإلهام لعدد من مصمّمي الأزياء الكبار، من أمثال جان بول غوتييه وكارل لاغرفيلد (دار شانيل) وماريا غراتسيا كيوري (دار كريستيان ديور).

​في الصالة الأولى من المعرض، يطالعنا رسمٌ بقلم الفحم يبدو، لوهلة أولى، أنّه من إنجاز طفل صغير، لكنّه أحد رسوم كحلو في بدايات رحلتها مع الفنّ. عنوان الرسم "الحادث" ويمثّل جسد طفلة ملقاة على الأرض، وفوقها حافلة، وفي الخلفيّة الشارع. هذه الخطوط السريعة هي المدخل الفعلي لهذا المعرض، ولولادة جديدة، بل لحياة بأكملها. إنّه الوجه الآخر لفريدا كحلو، وجه المأساة التي أصبحت أعمالاً فنّية وصورة حادّة للشرط الإنساني المتعثِّر، هذا الشرط الذي دفع الفنّانة، قبل أيّام قليلة من وفاتها في العام 1954، إلى كتابة العبارة الآتية: "آمل أن يكون خروجي من الدنيا سعيداً، وآمل ألاّ أعود أبداً".


MISS 3